
«كان يجب على منصّة تلفزيون جيّد في هذه الحقبة أن تُنتِج القلق!»
صنع العدو أو كيف تقتل بضميرٍ مرتاح – بيار كونيسا
الآن وبعد أن شاهدنا القاذفة الشبح بي-٢ في الحرب الإسرائيلية-الإيرانية أو حرب الـ١٢ يومًا، حانَ وقت مشاهدتها في فيلم أميركي جديد، إلى جانب مجموعة أسلحة يبدو وكأنّه يتم التسويق لها في السينما بعد التسويق لها في “الواقع” أو استعراض فحولة التفوّق الأميركي من خلالها، لكن هذا الأخير في خطر هذه المرة -أي في عالم هذا الفيلم- ويواجه تهديدًا وجوديًا، وقائمة المرشّحين لتشكيل هذا التهديد هم الأعداء التقليديون: الروس، الصينيون، الكوريون الشماليون وبدرجة أقل الإيرانيون وأذرعهم.
وهذه المرّة، الإسلاميون الجهاديون ليسوا ضمن قائمة الأعداء، فيما يبدو أنّه انعكاسٌ لطبيعة العلاقة بين الإمبراطورية الأميركية بقيادة صانع السلام ومُنهي الحروب دونالد ترامب، وبين مجاميع الجهاديين الذين ساهمت أميركا بخلقهم ثم حاربتهم ثم ها هي بقيادة العَمَلي صاحب “فن الصفقة” تُروّضهم ولا مانع عندها أن يَحكموا بلدًا بـ”شروط وأحكام” ودون إحكام! أو ربمّا لأنّهم لم يكونوا يومًا -ولن يكونوا- إلّا أعداءً مضخّمين؛ فكما يقول الفيلسوف الفرنسي البلغاري تزڤيتان تودوروڤ في كتابه “أعداء الديمقراطية الحميمون”1 ، إنّ خطر الأصولية الدولية أي القاعدة وأخواتها، يُعيد إلى الأذهان أعمال الفصائل اليسارية المتطرّفة مثل الجيش الأحمر في ألمانيا والألوية الحمراء في إيطاليا، بدلًا من الجيش الأحمر لستالين، وبالتالي يتطلّب تدخّل الشرطة والأمن بدلًا من اللجوء إلى جيوش ضخمة وقوية.

بيت من الديناميت.. أم من الكليشيهات الهوليوودية؟
فيلم بيت الديناميت الخارج قبل أيام من أفران نتفليكس، لا يبدو محشوًّا بالكثير من الأشياء الطازجة، ولا يبدو أنّه يفكّر خارج الصندوق الهوليوودي التقليدي؛ إذ يُعيد إنتاج الكثير من الأحداث والقصص والأجواء التي سبق وشاهدناها في كثير من الأعمال ذات النزعة “البطولية الوطنية” إن جاز الوصف، مثلًا لا حصرًا: الصخرة (1996)، اختطاف طائرة الرئيس (1997)، سلسلة أفلام صَعبُ الموت (1988-2013)، وسلسلة الأفلام المستوحاة من روايات جاك رايان التي كتبها توم كلانسي (1990-2014)، سقوط البيت الأبيض (2013)، سقوط أوليمبوس (2013)، والعملان الأخيران متشابهان وكأنّهما توأمان، والفرق الأبرز في لون بشرة الرئيس الأميركي الافتراضي! والقائمة تطول.
منذ لحظات الفيلم الأولى، نرى غرف عمليات في البيت الأبيض والبنتاغون فيها جنرالات وضباط وخبراء يُحاولون إنقاذ العالم أو للدقّة مركز هذا العالم أي “أميركا” من خطر صاروخٍ باليستيٍ عابرٍ للقارات لا نعرف مصدره ولا نقطة ووقت إنطلاقه في إشارةٍ واضحة إلى تقصير القوّة العكسرية الأميركية. تأهّبٌ عسكري وقلقٌ لا تنطفئ ناره وتوتّر متصاعِد وارتفاعٌ لمنسوب الوطنية الأميركية ووداعٌ للأحباب وحديثٌ مُكرّرٌ عن الأعداء المذكورين أعلاه، ورئيس أميركي، عارٍ من الخيارات وماثلٌ أمام معضلة وعليه أن يتخذ قرارًا قد يذهب ضحيته الملايين في سبيل إنقاذ البشرية جمعاء، في ما يشبه استدعاءً للدعوى المبرّرة لضرب هيروشيما وناچازاكي، حيث الملايين الذين قضوا كانوا ثمنًا لا بد منه لإنهاء الحرب وإنقاذ العالم وضررًا جانبيًا لمنع حدوث ضررٍ أكبر.

هذه الروح الأميركية وذلك “الديجاڤو“، ليسوا محلّ استغراب حينَ تُعرَف هُويّة صانعته، صاحبة الأفلام الحربية المثيرة للجدل مثل خزانة الألم (2008) الذي يدور حول حرب العراق و30 دقيقة بعد منتصف الليل (2012) الذي يتتبّع “الجهود” الأميركية لاعتقال “الجهادي” أسامة بن لادن؛ فالمخرجة الأميركية والزوجة السابقة لـ“جيمس كاميرون” كاثرين بيچلو رائدة في استعراض البطولة الأميركية والتفاخر بها والتسويق لـ”النزعة العسكرية الإنسانية الجديدة” -كما يسمّيها نعوم تشومسكي– والتي يبدو أن ترامب لا يحبّها حتى الآن، وإن كانت بيچلو تَنفي ذلك وتُصرّ أنّها تقدّم “توصيفًا” للحرب لا تسويقًا لها، لكن المتأمّل في مُجمَل أفلامها وخاصةً العملان المذكوران يستطيع بسهولة أن يَنفي نفيها.
البيت أيضًا مدجّجٌ بذخائر الصوابية السياسية
لكن، بالرغم من اكتظاظه بالكليشيهات والمشاهد المألوفة والمواقف التي سبق رؤيتها، ما زال في بيت الديناميت متّسعٌ لترسانة من تعاليم الصوابية السياسية وأيديولوجيا “الووك” أو “الووكيزم” التي قد تبدو ظاهريًا غير تقليدية وتتحدّى السائد والمُهيمِن، لكن كثرة استخدامها منذ “طوفان المنصّات” وتسيُّد نتفليكس، وحشرها في كل عمل جعلها سائدةً ورائجة حتّى أخذت شكل الصَيحة/التقليعة وأصبح من الواضح أنّها مُقحَمَة في كثير الأعمال البعيدة عنها وباتت هذه الأخيرة مغصوبة عليها، خاصةً حين تكون معروضةً على منصّة “صائبة سياسيًا” أو تُروّج للأيديولوجيا السائدة أو الأكثر رواجًا، أو يحبّها الناشطون ومُموّلوهم. عدا عن ذلك ما قيمة السينما وهي مسيّجة ومحاكمة وعليها أن تلتزم بتعاليم دينية؟ فتُخبِرُك وتُجبِرُك بأن تقول كذا وأن لا تقول كذا -كما يقول المؤّرخ والكاتب المصري الدكتور شريف يونس بتصرُّف- وفي ذلك مقال آخر في مقامٍ ثانٍ.
تَتَمظهَر هذه الصوابية السياسية في التعدّد/التنوّع العرقي للشخصيات، الذي بدا لي تعدّدًا/تنوّعًا قهريًا أو في أحسن الأحوال مصطنعًا ومُتكلّفًا ولا أراه في سياق الفيلم ضروريًا لولا أن اقتضته شروط وأحكام الأيديولوجيا المذكورة أعلاه والتزام المنصّات بها. وتُتوّج هذا البوليتيكال كوركتنس، بالرئيس الأميركي أسود البشر! بالطبع هذا ليس أوّل عمل يظهر فيه رئيس من الأميركيين الأفارقة، لقد سبقته أفلام كثيرة مثل الرجل (1972)، تأثير عميق (1998)، سقوط البيت الأبيض (2013)، لعبة كبيرة (2014)، سقوط الملاك (2019)، أو حتى عمل كوميدي بديع مثل حكم البلهاء (2006)، حيث أدّى الممثل الأميركي ضخم البُنية، ثقيل الوزن وخفيف الظل تيري كروز دور رئيس أميركي مستقبلي أسود البشرة، كان سابقًا مصارعًا ونجم أفلام بورنو!
وأين المشكلة في أن يكون الرئيس الأميركي أسود البشرة؟ أليس أميركيًا بالنهاية؟! وقد كان على كذلك لفترتين رئاسيتين! لكن حين يُؤخذ هذا العمل في سياقه الزمني والمرحلي، أي عندنا يُصنَع في الفترة الرئاسية لدونالد ترامب، الممقوت من الصائبين سياسيًا والذي جرت/تجري محاولات لـ”كنسَلَته”/إلغائه من ثقافة الإلغاء Cancel Culture. وحين يتحدّث عن فشل منظومة الدفاع الصاروخي الأميركية في التصدّي لصاروخٍ باليستي نووي عابرٍ للقارات في هذا الوقت تحديدًا، فالموضوع يبدو بعيدًا عن الصدفة، خاصةً وأنّ الرئيس الأميركي الحالي/الواقعي يسعى لتطوير مشروع دفاعي جديد اسمه “القبّة الذهبية”. كما أنّ ردّ البنتاغون ووزارة الحرب الأميركية ووزارة الدفاع الصاروخي على الفيلم ومهاجمته ورفض ما جاء فيه باعتباره خياليًا ومُضلِلًا، يَدعَم ذلك.
تعدّدية عفوية أم حنينٌ لأوباما؟
الرئيس الأميركي يؤدّي دوره إدريس إلبا ببراعة غير غريبة عنه، حتى إنّي أشك في أن إظهاره في النهاية متعمّد، لكي لا ينقطع حبل التشويق ويبقى المشاهد مشدودًا إلى الفيلم! هذا الرئيس كاريزمي -بحكم أن إلبا يؤدّي دوره!- حكيم وهادئ، عقلاني لكن دون أن يتخلّى عن عواطفه، وطني وليبرالي. وهذه صفات يبدو من الصعب جمعها في رئيس أميركي، لكن كاثرين بيچلو ونوح أوبنهايم -كاتب السيناريو- خلقوا رئيسًا أميركيًا على صورة خيالاتهم ورغباتهم، أو ربما على صورة الرئيس الأسبق باراك أوباما، في حنينٍ جارفٍ له ولعهده “الذهبي” مع أنّه من الصعب الادّعاء بأنّ بيچلو ليبرالية، هي لم تقُم بوَسم نفسها بذلك، وحتّى المتأمّل في مُجمَل أفلامها قد يرى أفلامًا يغلب عليها التبشير بـ”النزعة الإنسانية العسكرية” ودعم رجال الجيش، وأُخرى تَنَتقِد “عنصرية النظام الأميركي” و”عنف الأجهزة الأمنية.

جورج بوش الأسود؟
لكن، أليس هذا التناقض أو الازدواجية صفة مشتركة مع أوباما؟ رئيس أميركي من أصولٍ أفريقية، ميوله وشعاراته خليط ما بين الليبرالية واليسار، مُهتمٌ بحماية البيئة وتوفير الرعاية الصحية وفرض السلام. أمّا أفعاله فهي استكمالٌ لسَلَفِه: حروبٌ على عدّة جبهات وتدخّلات عسكرية بذرائع إنسانية وقتلٌ جماعي بالمسيّرات، أو ذبحٌ بقفازات ناعمة! وعلى سيرة سلفه، أي بوش الابن، رائد “الحروب الصليبية” الجديدة كما سمّاها، والعدوّ الحميم لرائد الغزوات المعاصرة ابن لادن الذي أنجز مهمّة اصطياده بعد 10 سنين من 11 أيلول خَلَفُه أي أوباما، هناك مشهدٌ في السيناريو/أو وجهة النظر الخاصة بالرئيس الأميركي من القصة، حيث يأتيه خبر “الكارثة النووية” المقبلة على شيكاغو وهو يشارك في دوري كرة السلّة للفتيات! في استدعاء/إحالة واضح للحظة إخبار جورج دبليو بوش بهجمات بُرجي التجارة العالميين والبنتاغون قبل 24 عامًا، أثناء مشاركته في نشاطٍ مدرسي لقراءة القصص مع الأطفال!

هل هو تنبّؤٌ سينمائي بالمستقبل، أم إنتاجٌ للقلق؟.. وأين تنتهي الأَسطَرَة ويبدأ الواقع؟
في كتابه “صنع العدو أو كيف تقتل بضميرٍ مرتاح”2 يرى الباحث الفرنسي بيار كونيسا أنّ السينما اهتمّت كثيرًا بما يسمّيه “سوق القلق”، حيث استخدمت البلدان كافة “الفن السابع”، ولكن يبقى الأميركيون، من دون منازع، الأقوى في البروباجندا السينمائية. ويذكر مجموعةً من الإنتاجات الهوليوودية التي اعتبرها تبنؤية بشكلٍ ما بهجمات الحادي 11 من أيلول، ومنها: الجحيم المرتفع (1974)، صَعبُ الموت (1988)، تفشّي (1995)، ذيل الكلب (1997)، الحصار (1998)، وفيلم نزيف الأنف الذي لم يرَ النور حيث تمّ إلغاؤه بعد هجمات 11 أيلول، لأنّه كان يتحدّث عن هجومٍ إرهابي على برجي التجارة العالميين! وفي سياق هذا التداخل بين ما هو خيالي وما هو واقعي يتساءل كونيسا: أين تنتهي الأسطَرَة، وأين يبدأ الواقع؟!
فهل هذا الفيلم يقوم بنفس الشيء؟ يتنبّأ بكارثة نووية ويستبقها بسيناريو يبدو قابلًا للتحقّق؟ وإن كان العدو الذي أطلق الصاروخ النووي على أميركا في بيت الديناميت مجهولًا، فالأعداء في “بيت الواقع” كُثُر ومعروفون، والمرشّحون الأوائل: الصين وروسيا بوتين. ولا يبدو هذا التنبّؤ نابعًا من هوسٍ بنهاية العالم وهلاوس مسيحانية، حين يُعلن ترامب في 30 تشرين الأوّل من هذا العام -بعد تفاخره بامتلاك بلاده لأكبر ترسانة نووية بالعالم الذي تملك 9 دول فيه أسلحةً نووية- عن إعادة تجارب الأسلحة النووية للولايات المتحدة لأول مرة منذ 33 عامًا! وهل يقوم فيلم أليكس جارلاند الحرب الأهلية الصادر قبل أقل من عامين، بالتنبّؤ بحربٍ أهلية في أميركا وإعدام ترامب؟ خاصةً وأنّ الرئيس الأميركي في الفيلم المذكور يشبه بطريقةٍ تبدو مقصودة الرئيس ترامب. مِنَ المُستَبعَد ذلك، لكن من يدري!
أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد حلقة جديدة في سيرورة إنتاج القلق أو إنعاش سوقه؟ ومَن أفضل من هوليوود للاضطلاع بهذه المهمّة؟ ومن أكثر قدرةً على الانتشار بسرعة والوصول إلى الجميع بكل سهولة من منصّة مثل نتفليكس! وفي هذا الصدد يقول بيار كونيسا: “إنّ خطر الاعتداءات بالوسائل الكيميائية أو النووية أو الجرثومية، التي أصبحت تهديدًا يعتبر وشيكًا، يُشكّل موضوعًا يرفع نسبة المبيعات. وكان يجب على منصّة تلفزيون جيّد في تلك الحقبة (يتحدّث هُنا عن ما بعد 11 أيلول)، أن تُنتِج القلق!” وها نحنُ اليوم لحسن حظّنا، لدينا منصّة “ترفيه” جيّدة لحقبتنا هذه.

كوبريك ضد بيچلو: قلق أقل، حب للقنبلة أكثر
في نهاية الفيلم أو السيناريو الأخير، يبلغ القلق ذروته وتقترب الكارثة النووية من شيكاجو وعلى الرئيس الأميركي اتّخاذ القرار الحاسم. وقبل لحظة القرار الصعب، تُملي عليه حكمته أن يردّد بعد الكلمات الوعظية والدرامية -المُقنعة والمؤثّرة بفضل أداء ألبا- فيُشبّه عيش البشر في أميركا نووية وعالمٍ نووي، ببناء منزلٍ مليء بالمتفجرات، تتم فيه صناعة القنابل ووضع الخطط وهو بأكمله على وشك الانفجار، لكنّنا واصلنا العيش فيه! من الممكن إعادة صياغة كلام الرئيس الأميركي المتخيّل باقتباس خالٍ من الصور الفنية، لتودوروف من كتابه المذكور أعلاه، حيث يقول: “إنّ ما تعلّمناه في القرن الحادي والعشرين أن الإنسان أصبح يشكّل تهديدًا لبقائه بالذات”.

في البحث عن نقيضٍ لهذا القلق الذي يعجُّ به بيت الديناميت، وتُضاعِف مخزونه موسيقى الملحّن الألماني فولكر بيرتلمان، علينا أن نعود 61 عامًا إلى الوراء، حيث كانت الحرب الباردة حامية -يا للمفارقة- وقدّم الراحل ستانلي كوبريك للبشرية جمعاء هديةً تُخفّف من القَلَق تجاه القنبلة النووية وتزيد الشَبَق تجاهها.
لا مكان في دكتور سترينجلوڤ (1964) للخوف من الكارثة النووية، لا فائدة من الدراما ولا وقت للوعظ، لكن هناك متّسعٌ للكوميديا السوداء في عالمٍ على وشك أن يتحوّل إلى سواد. وهناك مساحة واسعة للسخرية من العالم بشرقه وغربه وبمعسكريه الاشتراكي والرأسمالي، من الجنرالات الذين سرّعوا نهايته، من القادة الذين يجتمعون في “غرفة الحرب” في البنتاغون ويقاتلون بعضهم جسديًا ولفظيًا، كأنّهم في سيرك بشري أو هُم التطوّر الطبيعي للقرود الذين سيظهرون بعد أربع سنوات في فيلمٍ آخر لكوبريك مُعادٍ للإنسان.
وإن كان الرئيس الأميركي المتخيّل في بيت الديناميت أمام خيارٍ صعب ومعضلة، فإنّ إحدى شخصيات فيلم كوبريك، الجنرال “باك” تورجيدسون، يطرح بكل برود خيار هجومٍ نووي استباقي على السوڤييت، فيردّ الرئيس الأميركي رافضًا اقتراحه، إذْ يراه دعوةً لقتل جماعي، لاحرب! فيَرُد بلامبالاة: “سيّدي الرئيس، أنا لا أقول إنّ أيدينا لن تتلطّخ بالدماء، ولكنّني أقول أنّه لن يسقط أكثر من عشرة إلى عشرين مليون قتيلًا كحد أقصى ويعتمد ذلك على الظروف والصُدَف!”. وبحسب كتاب “موجز تاريخ الحرب”3 للمؤرّخ العسكري البريطاني الكندي چوين داير، فإنّ كوبريك تعمّد أن يكون الجنرال توردجيدسون صورة كاريكاتورية للجنرال الأميركي كورتيس إ. ليماي الذي خدم فترة طويلة رئيسًا لقيادة القوّات الجوية الاستراتيجية الأميركية والذي أراد بالفعل وقوع حربٍ نووية!

في نهاية بيت الديناميت يصل الصاروخ شيكاجو ولا نعرف قرار الرئيس ويتركنا العمل قلقين ومتوتّرين وربّما غير راضين عن نهاية غير تقليدية لا يُنقِذ فيها “البطل الأميركي” العالم. بينما في دكتور سترينجلوڤ نرى انفجارًا على وقع أنغام أغنية “سنلتقي مجددًا“ للمغنّية البريطانية ڤيرا لين! وحين تقوم قيامة العالم، يقوم النازي السابق وخبير الحرب النووية، المسمّى الفيلم على اسمه، عن كُرسيه المتحرّك، منتصبًا ومُنتَشيًا بنهاية الأرض وإبادة البشرية ومردّدًا “التحيّة الهِتلَريّة”، وكأنّ النازية لم تنتهي، بل زرَعت نفسها في “العالم الحُر” وهاي هي من قلب هذا العالم -الحُر في فنائه- تَشمَت بالبشر وهي تشاهدهم وهم يُهلِكون أنفسهم بأيديهم.

التاريخ الطويل لعمليات صنع العدو وإنتاج القلق
بالرغم من اكتظاظه بالكليشيهات وامتلائه بما سبق وشاهدناه، إلّا أنّ بيت الديناميت مهم جدًا ومن الضروري مشاهدته، لا لقيمته الفنية، فهو ليس ساحرًا بصريًا أو تقنيًا ولا يُحدث أي ثورة في فئته. واعتماده الأكبر على تَسَلسُلِه غير الزمني وعرضه نفس القصّة من عدّة وجهات نظر/زوايا، وأيضًا على القلق اللامنقطع الذي تداعبه وتُهيّجه ألحان فولكر بيرتلمان، وبالطبع يستند بالمقام الأوّل إلى طاقمه المتمكّن وعلى رأسهم إدريس إلبا، ريبيكا ڤيرغسون، جارِد هارِس. إذًا، بعد كل هذا لماذا هو مهم؟ لراهنيته؛ لأنّه يُطرَح الآن، في زمن أميركا الترامبية وروسيا البوتينية وأوروبا الحائرة والجيوش التي ينحسر وينحصر فيها تأثير المقاتل/القاتل البشري لصالح المقاتلات والمسيّرات والأسلحة الإبادية التي تُشغَّل عن بُعد، وكذلك للتفاعلات المستمرة معه والجدل القائم حوله والهجوم الأميركي الرسمي عليه.
والأهم، أنّه مُهِمٌ لـ”قيمة ما بعد العرض” الخاصة به. صحيح أنّ الناس غالبًا ستنساه بعد أسابيع كما هو حال أغلب الأعمال المعروضة على نتفليكس، لكن حين يأتي أحدهم ويقوم بالتأريخ للأعمال السينمائية التي تَضطَلِع بمهمّة صناعة العدو وإنتاج القلق وإعادة إنتاجه بأشكالٍ مختلفة، فغالبًا سيكون هذا أحدها. وربما سيُشار إليه بالفيلم الذي صدر في فترة رئاسة ترامب وهاجم المؤسّسة العسكرية وتنبّأ بكارثة نووية، إن لم تكن قد حدثت هذه الكارثة مستقبلًا! باختصار: إنّ قيمة الإنتاج السينمائي هذا تطورية لا ثورية.
هل هو من أفلام “الحرب الأهلية الأميركية الباردة”؟
إن كانت أفلام فترة الحرب الباردة، تلك الحرب التي اعتبرها عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي جان بودريار4 حربًا عالمية ثالثة وضعت حدًا للشيوعية كما وضعت الثانية حدًا للنازية.. أقول: إن كانت هذه الأعمال قد هاجمت الأيديولوجيا الشيوعية والإمبراطورية التي تبنّتها، عبر الوسيط السينمائي الذي بات هو الرسالة وأصبح ساحةً للصراع الأيديولوجي -بتعبير سلاڤوي چيچيك– فإنّ بيت الديناميت يهاجم “أعداءً داخليين” دون أن يُسمّيهم وكلام الرئيس الأميركي عن العيش في بيت من المتفجّرات يُمكِن قراءته كإشارة مبطّنة إلى ذلك. فهل يكون هذا الفيلم وأفلام أخرى ستأتي من بعده من ضمن “سينما الحرب الأهلية الأميركية الباردة” مستقبلًا؟ وهل ستعقب هذه الحرب، حرب عالمية رابعة والتي ستكون وحدها بالفعل حربًا عالمية كما يتنبّأ بودريار؟ ربما، وغالبًا هي مجرّد خيالات، ومن هُنا يبدأ الإغواء.. من واحات الخيال لا صحراء الواقع.


Beautiful friend
This is the end
My only friend, the end
Of our elaborate plans, the end
Of everything that stands, the end
هوامش:
- أعداء الديمقراطية الحميمون – تزفيتان ترودوف، ترجمة غازي برو، نشر: دار الربيع، توزيع: دار الفارابي، ٢٠١٥.
- صنع العدو أو كيف تقتل بضميرً مرتاح، بيار كونيسا، ترجمة: نبيل عجان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٢٠١٥.
- موجز تاريخ الحرب – غوين داير، ترجمة: آراكة مشوّح، الشبكة العربية للأبحاث، ٢٠٢٥.
- العولمة والإرهاب – جان بودريار، من مقال في جريدة لوموند ديبلومانيك الفرنسية، ١٨ نوفمبر ٢٠٠٢، من كتاب “العنف” الصادر ضمن سلسلة دفاتر فلسفية عن دار توبقال للنشر، ترجمة وإعداد محمد الهلالي وعزيز لزرق، ٢٠٠٩.