عن المُهَلوِسين باستعادة الماضي والعالقين في المستقبل

«إنّ تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء»

كارل ماركس

أين يعيش المُهلوِسون بالماضي؟ في بيتٍ من الجثث! أمّا أولئك الّذين يحاولون إحياء الموتى، فلن يعيشوا.. إلّا كجثث متحرّكة.

لا يعني ما سبق إلقاء الماضي بسلّة المهملات؛ فأحيانًا يكون ملهمًا للحاضر ومحفّزًا على المُضيّ قُدُمًا صوب المستقبل. لكن يجب التعامل معه بوصفه رافدًا للهوية ودعامةً من دعامات الحضارة، لا كمقدّس؛ فحينَ يُقدَّس يتحوّل إلى مادة للهلوسة، فيصبح مقدّسوه مُهلوِسين باستعادة ماضٍ «ذهبي» ومدمنين على تعاطي خيالات تفصلهم عن الواقع وتجعلهم يعيشون في ذُهانٍ جماعي.

أمّا المستقبل، فهناك مُهلوِسون به أيضًا! يقتطعونه من علاقته الجدلية بالماضي والحاضر، فيصبحون عالقين بما لم يأتي بعد، ينتظرون الموعود وكل مخطّطاتهم ليست في سبيل مستقبلٍ ممكن التحقّق، بل من أجل مستقبلٍ متخيّل لكنه حتمي التحقّق ومحسومٌ أمره بإرادة الماضي والأزل والماوراء وما قبل التاريخ، لا بإرادة المادة والقوّة والعنف الضروري والتخطيط بعيد الأمد ومكر التاريخ.القوّة والمادة ومكر التاريخ.

وبين الهلوسة باستعادة الماضي والهوس بانتظار المستقبل الموعود يضيع الحاضر؛ فهو الذي سيصير ماضيًا وسيصنع مستقبلًا. ومن يملك الحاضر: كل شيءٍ له.. حاضر.

استعادة الماضي اليوم ليست عفوية بالضرورة، ربما هي كذلك على مستوى الجماهير و«الوعي الجمعي» وإن كانت هذه العفوية ليست مرادفةً للبراءة بالضرورة. لكن على مستوى النخب والقادة وواضعي السياسات وموجّهي الجماهير ومهندسي الدعاية ومروّجي الحروب، تتم استعادة ماضٍ بصيغة الحاضر، نسخة رثّة عمّا مضى وانتهى تخدم غاياتهم في الحاضر. وهؤلاء لا يُلامون؛ فمسؤوليات عملهم تقتضي استغلال المثل والقيم من أجل أشياء أبعد ما تكون عنها، ومن هواياتهم المفضّلة سلخ الأشياء عن سياقاتها التاريخية.

هنا عليّ أن أعود شخصيًا إلى الماضي أيضًا، إلى كتاب ماركس «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت»، الذي يقول فيه: «في فترات الأزمات على وجه التحديد، نرى الناس تلجأ إلى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدها وتستعير منها الأسماء والشعارات القتالية والأزياء، لكي يمثّلوا مسرحية جديدة على مـسرح التاريخ العالمي في رداءٍ تنكّري يكتسي بوقارٍ ولغةٍ مُستعارة».

اليوم، يبدو هذا الماضي المتخيّل -الذي تنبهر به جموعٌ منتمية إلى جماعات متخيّلة- كرتونيًا وكوميديًا، مجرّد حاضرٍ له غاياته ومقاصده يتنكّر في رداء الماضي بوقارٍ مصطنع ولغةٍ ممسوخة بفعل المحاكاة والمشابهة.

وكما قال ماركس -مجدَّدًا- في مقولته الشهيرة جدًا من نفس الكتاب: «إنّ جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم تظهر مرتين: المرة الأولى كمأساة والمرة الثانية كمسخرة/مهزلة».

في المرّة الأولى (الماضي)، كانت الأحداث والشخصيات تاريخًا بمآسيه وانتصاراته، وفي المرّة الثانية (اليوم/الآن) في عالم مزدهر بالأزمات والقادة المأزومين -ترامب مثلًا لا حصرًا- والشعوب المتأزّمة، فإنّ هذه الشخصيات والأحداث التي مَضَت تتكرّر على شكل مسخرة/مهزلة.