عن الحرب المُحتواة بعناية

وأخيرًا توقّفت الحرب الإسرائيلية الإيرانية بعد 12 يومًا -وإن لم تنتهي- ومع ذلك لم ينتهي العالم في حرب نووية هرمجدونية الطابع، كما كان يتمنّى -بل ويؤمِن- أصحاب الخطابات المسيانية/الخلاصية/القيامية/الملحمية الّذين ينتظرون مُخلّصهم ويُسرّعون بتدخلاتهم البشرية “تدخلًا إلهيًا” سيُنهي الزمان ويأتي بالآخرة. ولم تتوسّع الحرب لتكون إقليمية ولم تَكبُر -على طريقة أبو شهاب “إن ما كِبرِت ما بتِصغَر”- لتصبح عالمية. لقد تمّ احتواؤها والسيطرة عليها، وبالتأكيد هذا الاحتواء تطلّب عدّة عوامل:

أولًا: قوّة تَضبِط الإيقاع، وهي بالتأكيد الولايات المتّحدة الأميركية تحت رئاسة رئيسٍ لا يُفضّل الحروب المُنفَلِتَة من عقالها بعكس أسلافه. رئيس استعراضي من خلفية بزنس-ترفيه تُهمّه أكثر مشهدية الحرب واللقطة التي سيظهر فيها صانعًا للسلام. المفارقة هُنا أن من ضَبَط إيقاع هذه الحرب واحتواها كان مشاركًا فيها منذ اللحظة الأولى وراعيًا لها، كما أصبح راعيًا لـ”السلام” بعدها! مفارقة أخرى: ربما لو لم تكن أميركا هي الضابط والراعي والمُحْتَوي، وكانت قوّة كبرى أخرى لم نُجرّبها بعد، أقول ربما خرجت الأمور فعلًا عن السيطرة، لكن ليس ثمّة شيء مؤكّد بخصوص هذه النقطة، إنّما هو شعور شخصي بأنّ الآخرين ليسوا أفضل من “الشيطان الأكبر” وربما كانوا أشيطَن، ونحنُ لا نعرف شكل الشيطان حتّى الآن ولا نعرف إن كان موجودًا أصلًا أم هو مجرّد شمّاعةً يعلّق عليها البشر غريزتهم التدميرية وميلهم التطوّري نحو “الشر”.

ثانيًا: عقلانية أحد الطرفين، وهي إيران. بالرغم من أن القسط الأكبر من خطابتها ودعايتها الموجّهة لجمهورها الداخلي ولجمهورها الناطق بالعربية غير عقلاني ولا معقول وشعبوي وقائم على المبالغات بإفراط. لكن في جانب الممارسة والتعامل مع الواقع، يميل نهج طهران إلى الواقعية والعقلانية والبراجماتية وهو نهجٌ تُحمَد عليه، بعكس أنصارها الأيديولوجيين والمُشجّعين بحماس لفريقها خاصةً في المنطقة العربية. أمّا الكيان، فهو بقوّته الغاشمة وجبروته ليس مُحتاجًا لأي عقلانية، فقط على أميركا وبالنيابة عن الغرب الذي وجد “الحل النهائي” لـ”المسألة اليهو-دية” على حساب الشرق وأرضه وأهله أن تُروّضه. وفي أحيانٍ كثيرة تُطلِق لهذه القاعدة العسكرية العنان لممارسة رياضتها المفضّلة: الوحشيّة، التي يبدو أنها تُبدع فيها أكثر على المدنيين العُزّل كما في غزّة.

مفارقة أخرى -ويا لها من حربٍ ملأى بالمفارقات وعالمٍ يَغصّ بالسُخرية والكوميديا السوداء- تكمن في أنّ لا إيران ولا “إسرائىل” كانتا مُتحمّستان للأجواء القيامية ولا تنتظران المخلّص وصراعهما مادي، إلّا أن الأنصار والمشجّعين ومحبّي هُوشات وطوشات حارة الضبع وحارة أبو النار، استبشروا بالحرب ورأوا فيها فرصةً لتعجيل قدوم المخلّص.. على اختلاف أصل وفصل واسم هذا المُخلّص عند جميع الأطراف، ولم أقل الطرفين؛ فهُناك من يشجّعون الحرب ويدفعون بها لتكون نووية إبادية وتقوم “القيامة” ويأتي مُخلّصٌ من طرفٍ ثالث لا يؤمن به الطرفان، الإنجيليون الصهاينة في أميركا مثلًا لا حصرًا.

قبل بضع سنين، كنت أقول ردًا على أصحاب الخطابات القيامية والسوداوية -في فترة كانت أيضًا مُشبّعة بالكوميديا السوداء بالإضافة إلى الأجواء البيروقراطية على الطريقة الكافكاوية وعبادة الأخ الكبير/الإخوة الكبار الأورويلية هي أزمة فيروس كورونا-: “إنّها ليست نهايتنا” وأتبعها بـ”للأسف”. اليوم أقول: “إنّها ليست نهايتنا، والحمد لله رب العالمين أنّه نجّانا -حتى الآن- من المجانين”.

إنّ الحرب بين الكيان وإيران لم تنتهي، هي لم تبدأ أصلًا في الثالث عشر من حزيران الحالي، أو في السابع من تشرين الأوّل 2023 (كون الدولة الفارسية أعلنت مباركتها للعملية ضد الكيان العبري ودعمها لها وقالت: إنها جاءت ردًا على اغتيال قاسم سليماني قبل أن تسحب كلامها) هي سيرورة إن جاز الوصف. ربما بدأت في عام 1979 أو حتى قبل، منذ أن تأكّدت دولة هرتزل أنّها لا تستطيع العيش بدون أعداء وأنّها تحيا من أجل الحرب و”تزدهر” بالقتال وتنتعش بمزيد من النعوش لخصومها المستعدّة لخلقهم على الدوام إن انقطعوا من سوق الحرب. لكن الأكيد ومع توقّف هذه الحرب المُحتواة، أنّ كثيرًا من المُشجّعين والأنصار العاشقين للخطابة والثرثرة لن يتوقّفوا عن التشجيع وصناعة انتصارات وهمية ومكاسب نصف مطبوخة، ولا شيء قادر على كبح جماح الغريزة التدميرية التي تُغذّيها خرافات وفانتازيا دينية توراتية وغير توراتية أو على احتواء “ليبيدو” القياميين التوّاق لمزيد من الخراب.

أمّا الكيان، فَمِن الجميل بل من الضروري، الشماتة به والفرح بما تلقاه من ضربات حطّمت كثيرًا من أساطيره، لكن على المرء الحذر من الاكتفاء بهذه الشماتة أو العيش عليها وتذكير نفسه على الدوام بأنّ هذا الكيان محترفٌ في الابتزاز -ابتزاز مُضطَهِد الىهود بالأمس أي الغرب وتذكيره بالهولوكوست وإعادة إنتاجه في سياق تضخيم أي هجوم ضده- وأنّه كذلك بارعٌ في إيهام أعدائه بأنّهم مُمسكون بزمام القوة، في اللحظة التي يُحكم خناقه على رقابهم. الأهم من كل هذا، أن المأساة بحق ما تبقّى من الشعب الفلسطيني في غزّة، لم تتوقّف بعد، ويبدو أن المسؤولين عن الاحتواء غير مهتمّين بمهمّة احتوائها؛ فاختصاصهم الحروب، وما جرى ويجري في غزّة من صنفٍ آخر، يُطلَق عليه: إبادة.

ختامًا سأُورد اقتباسًا لعالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي الراحل جان بودريار من كتابه المهم والأهم “المصطنع والاصطناع”، قد يساعد في فهم هذه الحرب، وبعض محطّاتها المهمّة مثل ضرب أميركا لمنشآت إيران النووية بواسطة القاذفة الشبح بي-2 وقصف إيران أمس لقاعدة العديد الجوية في قطر والتي غلبت عليه الرمزية والمشهدية والاصطناع و”الاحتواء” بشكلٍ واضح وفاضح، يقول بودريار: “لم يعُد هناك مكان لأي استراتيجية، وتصعيد الأمور ليس غير لعبة أطفال متروكة للعسكريين. لقد مات الرهان السياسي، لتبقى فقط عمليات اصطناع النزاعات والرهانات التي تُحتَوى بعناية.”