رأس المِمحاة: عن تأويلٍ آخَر لأوّل كوابيس ديڤيد لينش

لا أدري كيف يمكن وصف مشاعر المرء تجاه هذا الفيلم، ولا أدري إنْ كان يمكن إدراج “رأس الممحاة” تحت بند “فيلم”1؟! أو تصنيف أوّل أفلام الراحل ديڤيد لينش كفيلم رعب! في الحقيقة -وهذه الأخيرة ليست متوفّرة بكثرة في عوالم لينش- هناك الكثير من “لا أدري” ومن “اللاأدرية”. إنّه ليس فيلمًا، مع أنّه سينمائيًا وبطبيعة الحال فائق ولوقته سابق، ويبدو عملًا مصنوعًا اليوم بالأسود والأبيض لكنّه متفوّقٌ على أفلام عصره.. عصره الحقيقي في السبعينيّات، وعصره اليوم، فهو عملٌ ينتمي إلى كل العصور.

إذًا هل هو تجربة؟ تجربة مجرّدة من المنطق والمألوف والمفهوم ومتحرّرة من الزمن، أراد فيها لينش أن يُجرّب ويُجرّد بلا حدود؛ لأنّ هذه هي السينما بالنهاية ومن يُكبّلها بالأصفاد يمسخها حين يجعلها عاديةً مملّةً ذات بعد واحد، أو “واقعية” فقط وتعكس هموم الجماهير والطبقات الكادحة… إلخ، أو كما يريدها شرطة الفنّ الراقي وهيئة مكافحة الفن الهابط، أخلاقية وملتزمة، أو على مزاج الذين يُلزِمون أي وسائط أو وسائل فنية بحمل رسالة، غافلين عن حقيقة أن الوسيلة/الوسيط نفسها هي الرسالة كما رأى فيلسوف الاتصال الجماهيري مارشال ماكلوهان منذ عقود.

حسنًا، هو إذًا كابوس؟.. أم هلاوس؟ أم مخاوف مدفونة ودوافع مكبوتة للينش وللإنسان بشكلٍ عام؟ أم هي مجرّد إسقاطات ورمزيات بقالبٍ سُريالي وعلى طريقة “أفلام رعب الجسد” التي أبدَع فيها ديڤيد لينش وديڤيد آخر هو ديڤيد كروننبرج؟ الجواب -الذي ليس حتميًا بالضرورة- على كل هذه الأسئلة: هو كل هذا وذاك، هو كابوس إن شئت الاختزال، يبدأ على الفور، منذ النقر على زر التشغيل.. فلينش لا يُحبّ الانتظار وإن استغرق 5 سنوات في إنتاج “رأس الممحاة” وإن كان في هذا الأخير مساحات مخصّصة للانتظار، للسكون المُرعِب، للهدوء.. المُقلِق، لفترات صمت مريبة بين شخصيات غريبة.

هو كذلك يبدو تجربة مزعجة ومقلقة: تكوينات بصرية فائضة بالجماليات، لكنّها بنفس المقدار تفيضُ إزعاجًا وتشاؤمًا. شعور كريه يتولّد مع كل مشهد وينبجس في كل لقطة ومع ذلك يستمر المرء في المشاهدة! شيء أشبه بجلسة تعذيب طوعية بأدوات الصوت والصورة، بمازوخية عَرِف لينش منذ أن كان في سن الحادية والثلاثين وخَلَق هذا الفيلم للعالمين، أنّ الناس تحبّها.. وأنّ الجمهور وإنْ ادّعى التحضّر، فإنّ الجذور البدائية المترسّبة فيه تغويه بما هو مرعب وكريه ومقزّز.

السؤال الأهم: هل يمكن تأويل هذا العمل؟ وهل ستكون عملية التأويل بريئةً من التحيّزات الذاتية والإسقاطات الشخصية؟ نعم جوابًا على الشطر الأوّل، لا جوابًا على الثاني. صحيح أنّه لا يعلم تأويل العمل إلّا مؤلّفه، لكن المؤلّف قد مات، مات بالمعنى البارتي -نسبةً إلى الناقد والفيلسوف الفرنسي رولان بارت– قبل أن يموت فعلًا بانتهاء عمره لا فنّه. مات لحظة صناعته لهذا العمل كما مات لحظة تكوين أي عملٍ آخر؛ فكما في النص حيث لا تعود سُلطة لمؤلّفه وتنتقل كلّها للقارئ/الناقد ليصبح هو المؤلّف، في هذا العمل السينمائي، تُسحَب السُلطة من لينش أو يسحبها برغبته وينسحب طوعًا ليترك للمشاهدين/النقّاد مهمّة التأليف من خلال فعل قراءة العمل وتأويله، كما يفعل إلهٌ انسحب من العالم وترك الناس يصنعون المعاني ويتقاتلون عليها.. لكن في النهاية لا يعلم تأوّيله إلّا هُو.

وكما يقول بارت في كتابة “النقد والحقيقة”2: “الرمز ثابت ولا يمكن أن يتغيّر سوى وعي المجتمع به.” وما أراده لينش -إن أرادَ شيئًا فعلًا- من رمزيات هذا العمل هو ثابت، ولا يتغيّر شيء سوى وعينا به وقراءتنا وتأويلنا ونقدنا له. وهذا بالإمكان إسقاطه على كل أعمال لينش وربما على كل عمل سينمائي وتلفزيوني خاصةً إن كان غارقًا في الرمزية والغموض والإبهام. وفي النهاية التأويل، وبمصطلحات فيها شيء من الاقتصاد: سوق مفتوحة، خاصة لسينما متحرّرة من رقابة الحزب الواحد ومنعتقة من أغلال الأيديولوجيا الخاصة بِه وخطابته المُملّة.

وُلوجًا إلى هذا العمل اللينشي الغرائبي واستئنافًأ لتأويله، ليس هناك عالم واضح المعالم! كل ما نراه كأنّه يحدث على أرضٍ يباب، في عالم جحيمي وكونٍ كابوسي، وربما الجحيم الحقيقي ليس في عالمٍ آخر، بل هذه الأرض، وكل إنسان يستطيع أنْ يصنع جحيمه الخاص بضعفه وجبنه، كما يستطيع أن يصنع الجنّة على الأرض بالقوّة. وهنا يبدو لينش متأثّرًا بمُلهِمه السويدي إنچمار بيرچمان، وثمّة الكثير من المشاهد واللقطات التي تذكّر بفيلمي التوت البرّي والختم السابع الذين أخرجهما في عام 1957، بالإضافة لفيلمٍ تشاؤمي بيرغماني سبقهما بثمانِ سنوات يتحدّث عن الجحيم على الأرض وحكم “الشيطان” لها، هو سجن.

كثيرٌ من التكوينات البصرية والكادرات بدت وكأنّها لصانع الأفلام الأميركي ويس أندرسون، لكن الألوان الزاهية تنسحب من اللعبة البصرية لصالح الأبيض والأسود الباهت، وأفضّل أن أرى لون الفيلم بالرمادي.. لأنه اللون المناسب له، لعالمه الذي يقع في منطقة رمادية بين الواقع والخيال، بين الحقائق والهلاوس، بين ما تبقّى من الواقع وما فوق الواقع أو الواقع الفائق. وكل لقطة بكل تشاؤميتها وسوداويتها تصلح لتكون غلافًا لألبومٍ لفرقة “ميتال أسود” (Black Metal) مثل المشروع الموسيقي الذي أسّسه النرويجي فارچ فيكرنس Burzum مثلًا لا حصرًا، ويمكن بكل سهولة تركيب بعض مشاهد الفيلم عليها، وسيكون مزيجًا مثاليًا.

عالم الفيلم صناعي وبيروقراطي، مُظلِم وكافكاوي3، حيث الكثير من الماكينات والمصانع والكهرباء والأضواء التي تلتهم البشر وكل ما يتعلّق فيها يبدو شيطانيًا وكل ما هو صِناعي ينهش الحقيقة أو ما تبقّى منها. والموسيقى التصويرية من خلال الضجيج الصناعي والموسيقى المُحيطة المظلمة والأصداء الشبحية،تنجح في إيصال هذا الشعور وبإحساسنا بتلك الأجواء، وكأنّ شخصية الفيلم الرئيسة ابتلعها حوتٌ صِناعي وهي الآن في بطنه، أو كأنّ الجحيم هو عبارةٌ عن مصنع لا تتوقّف آلاته عن إحداث الضجيج البشع الذي يرافق عملية تحويل الإنسان إلى آلة مُهلوِسة بحياة فائتة، بعالمٍ كان يجب أن توجَد فيه.

أمّا البيروقراطية، وهي ليست تلك الحكومية فقط أو بيروقراطية العمل بل بيروقراطية الوجود، فتقود إلى الجنون ويبدو البطل (هنري سبنسر) ضحيّتها.. لكن هل هو بطل وهل هو ضحية؟ لا، ليس بطلًا أبدًا، هو ليس حتى شخصية رئيسة، ذَكرٌ بتسريحة شعر غريبة يبدو بمشيته ولغة جسده وملابسة أقرب إلى تشارلي تشابلن، لكن النسخة القلقة والأكثر غرابة وإثارة للريبة منه. إنّه رجلٌ بلا خصال الرجال، بليد، مُسالِم على نحوٍ مَرَضي، إيجابي على نحوٍ سلبي، لا يقول “لا”، ولا يصدر منه أي اعتراض، ممتَثِل ومِطواع حتى لو كان الامتثال على حساب تحويل حياته إلى جحيم وحرمانه من أن يحيا أو يشعر بتلك “اللسعة” المرافقة لأن يكون حيًا وموجودًا في العالم.

كل هذه الخصال ستقوده حتمًا إلى مصيره النهائي. وهذا الابن المسخ هو نتيجة طبيعية ومنطقية للإنسان المِطواع المُسالِم العاجز عن المواجهة، المرتاح لسجنِ نفسه في شقّة أقرب لزريبة حيوانات، منزويًا بعيدًا عن العالم. هذا الابن ربما ليس حتى ابنه، هو حتى لا يناقش “صديقته”/”حبيبته” المشكوك أنّها حبيبته والتي يبدو أنّها وأهلها ينتمون لعائلة تتوارث المرض العقلي وتتعاطى الهلاوس الدينية. سيصبح هذا المسخ الكريه ابنه وعليه تحمّل مسؤوليته وحده، مع إنه لم يُجِب على سؤال والدة صديقته/حبيبته المضطربة عمّا إذا كان قد مارس الجنس معها؟ إنه يتطوّع لأن يكون مجبورًا على كل شيء ويرتاح لعدم المواجهة حتى لو كانت النتيجة كائنًا مسخًا أقرب لكائن فضائي من فيلم فضائي (1979) لريدلي سكوت أو لحشرة من فيلم الذبابة (1986) لديڤيد كروننبرج أو زاحف من الذي يؤمن بوجوده مروّجو ومتعاطو نظريات المؤامرة. إنّ هنري سبنسر هو الضحية المفضّلة للبيروقراطية، والفريسة التي تحبّ العفاريت والأشباح المجتمعية (العائلة، الدين، التقاليد…) ركوبها.

إذًا هذا المولود المسخ، يمكن أن يكون رمزًا لعدّة أشياء: لمولودٍ غير مرغوبٍ به، حيث الطفل غير المخطّط له وغير المرغوب به، هو فضائي، وكما من الصعب أن تتعامل مع فضائي لو صادفت واحدًا في الشارع، من الصعب أن تتعامل مع طفلٍ لا تريده وتجده صار واقعًا في قلب بيتك. أو هو بيانٌ ضد الإنجاب والتكاثر بشكلٍ عام، يقول إن الإنجاب ليس فقط إعادة إنتاج لنفسك، هو إعادة إنتاج للخطأ في سياق عودٍ أبَدِي، وتكاثرٌ للبؤس وميلاد للتراجيديا.

أو قد يرمز للعبء الذي على الشخص المُمتَثِل والمُسالِم تحمّله، أو لمصيبة وورطة لا يعرف الإنسان كيف وجد نفسه بها، وعليه أن يستسلم لها وأن لا يفكّر أبدًا بالخروج.. فليس هناك أي مَخرَج. هنري جثّة في القبر، جثّة ما زالت حيّة، والقبر هو شقّته القذرة التي يختنق كل شيءٍ فيها: الحياة، الجنس وسائر الغرائز، البهجة والطمأنينة. وهذا المسخ ربما في النهاية حياته المُتعفّنة التي ترك تُربتها دون أن يسقيها بماء التجريب والمغامرة والحب والجنس والعنف وغيرها من الأشياء التي تجعل الحياة تستحقّ العيش. أو ببساطة هو من الممكن أن يكون استعارة للعلاقات السامّة بين الأزواج، كما في فيلم امتلاك (1981) ومسخه المُريع للبولندي الراحل أندريه زولاڤسكي.

لكن مجددًا، إنّ أحدًا لن يعرف إلى ماذا يرمز هذا الطفل المسخ إلّا لينش نفسه الذي مات ومات سِرّه معه، والذي كان يرفض في أكثر من مناسبة إفشاؤه، كما في مقابلاته مع صانع الأفلام كريس رودلي4، حيث حاول هذا الأخير في أكثر من مناسبة صيد تفسيرٍ أو تأوّيلٍ لهذا الطفل ولمُجمَل أحداث الفيلم.. وكانت أغلب ردود لينش من قبيل: “لا أعرف، لن أصرّح”.

أكثر مشاهد العمل إزعاجًا، هو مشهد زيارة هنري لعائلة “حبيبته”. هذا المشهد أرى فيه كره العائلة وجنونها وتناولها كسيرك يُخرّج مسوخ ومشوّهين أو مهرّجين في أحسان الأحوال. حركات غريبة تصدر عن الأم والابنة وأبٌ مشوّش، ومتقلّب بين العصبية والبلادة. كل شيء في هذا المشهد كريه ومقرف، الأشخاص وأشكالهم، العجوز التي لا تتحرّك وفي فهمها سيجارة في المطبخ، الدجاجة المشوية التي تتحرّك على الطاولة وينفجر منها الدم. إنّ كل شيء هُنا ضد “عفاريت” الزواج والارتباط والعائلة النووية تحديدًا والتي تظهر في العادة بصورةٍ حميمية دافئة، لكن ليس في عالم لينش، المضاد لما هو مُعتاد.

ماذا عن الجارة الجميلة والفاتنة؟ من الممكن أن تكون رمزًا للمكبوت في حياة هنري، لما لم يحصل عليه ويشتهيه، والمثير للاهتمام أنّ هذه المرأة المثيرة هي أوّل أنثى تظهر في الفيلم قبل “حبيبته” المزعجة، وربما هي حسرة من حسراته التي لا يستطيع التعبير عنها إلّا بمخيلته الواسعة، حسرة رجل كان بإمكانه الظفر بامرأة كهذه، لكن إيجابيته السبية رمته في أحضان امرأة أخرى لا يريدها، لكنّ الممتثل والمِطواع والمسالم بلا إرادة.

هذه المرأة تُحيل إلى الأنثى الفاتنة/اللعوب (Femme fatale)، في “الفيلم الأسود/فيلم النوار“، ونراها في أفلام أخرى للينش مثل رينيه ماديسون / أليس ويكفيلد في فيلم النيو-نوار الطريق السريع المفقود (1997)، ودوروثي فالنز في مُخمَل أزرق (1986). دون أن يحتكّ بها كثيرًا ومن خلال لقاءات قليلة وعابرة وأحدها تكون فيه مع رجلٍ آخر، تتلاعب فيه هذه الجارة بطريقة سحرية، كأفعى سفر التكوين في العهد القديم، لكنها لا تُخرجه من الجنّة، بل تُذكّره بأنّ هناك جنة فائتة وجحيم واقع.

من الشخصيات الأكثر إثارة للقلق والقرف، هي تلك المرأة صاحبة الوجه المشوّه ومساحيق التجميل التي تزيد هذا التشوّه: المرأة في المشعاع5. هل هي –إذا اضطررنا تقديم قراءة فرويدية6 كما فعل وسيفعل الكثيرون- الأم؟ وهل الرجل المشوّه في الكوكب هو الأب؟ يبدو ذلك تأويلًا منطقيًا؛ فهذه المرأة تخرج من المشعاع، الأداة التي تنتج الدفء في غرفة هنري، والأم هي مصدر الدفء لرضيعها/طفلها. كما أنّ شخصًا بمواصفات وخصال هنري غالبًا متعلّقٌ بأمّه التي من المرجّح أن تكون متلاعبة به وقاسية معه ومُعنّفة له، والتشوّهات الجسدية في طفله ما هي إلّا استعارة لتشوّهات نفسية وعقلية أورثتها هذه الأم. وفي تعاملاته مع مشاكل حياته ومع الإناث يُطلّ دائمًا ظلّ أمّه الذي يذكّره بأنّه رجلٌ طفل، بالغٌ غير ناضج.

أمّا الرجل في الكوكب، فهو الأب الذي يرمز تحريكه للروافع في بداية ونهاية الفيلم إلى العملية الجنسية نفسها، ويرافق هذه الحركات الكائنات التي تشبه الحيوانات المنوية، مؤذنةً ببداية تكوين مسخ جديد، مسخ أبيه وأمه والمجتمع والمدينة الصناعية، والمسخ هُنا ليس هذا الكائن الكافكاوي، بل هنري سبنسر نفسه.

أو يمكننا الذهاب بعيدًا في التأويل والقول إنّ القصة سياسية بالكامل! حيث هنري مجرّد مواطن مثالي في دولة توتاليتارية، عاجزٌ عن الرفض والمعارضة ويعيش حالةً دائمة من القلق والخوف مسلوب الحرية ومستلبًا وعليه أن يعيش بصمت داخل غرفته التي تشبه السجن وإن خرج منها فليس في الخارج أي مظاهر للحياة والأجواء كلّها ملوّثة بسموم المصانع. أمّا الناس، فيتقاسمون البؤس بعدالة ويحصلون على حصّة متساوية من القمع، والكبت الجنسي في ترابطٍ عضوي مع الميول الفاشية، وكلّما تعاظم أحدهما يتعاظم الآخر بنفس المقدار. والطفل المسخ في النهاية هو كل إنسانٍ جديد يُولد في هذا المجتمع، هو الإنسان المثالي لهذا المجتمع ودولته التي خلقت “آدم” الخاص بها على صورتها.

هل النظام التوتاليتاري في هذا التأويل هو اشتراكي أم رأسمالي؟ إذا أخذنا السياق الزماني للفيلم، يبدو هذا النظام اشتراكيًا وأقرب لدولة كانت تابعة للمعسكر الشرقي.. أو ربما إذا ذهبنا أبعد في التأويل هو الاتحاد السوڤييتي نفسه، أو هجين من دولة عالم ثانٍ وثالث. لكن لا فرق، فعجلة الإنتاج والتصنيع والقمع تدور رحاها وتمسخ البشر، والمسوخ تختلف في طبيعة السيرك الذي تتواجد به، واحدٌ ملوّن ومُبهرَج، وآخر ذو لون واحد كئيب.

في النهاية وفي تحليل -ليس أخير- يمكن تجميع كل ما سبق، وتركيبه على بعضه ولن يكون هناك أي خلل، على العكس قد تصبح الصورة متكتملة ولوحة البازل مكتملة القطع، حين تُكمّل كل الأشياء بعضها. الدولة التوتاليتارية والمجتمع الصناعي والعائلة المفكّكة والعلاقات السامة والكبت الجنسي والهلاوس الفردية والجمعية، كلّها تتعاضد لتكونَ أركانًا لهذا الكابوس، الذي ربما كان كابوس لينش، أو إذا أردنا تقديم تأويل آخر داخل التأويل، هو كابوس داخل كابوس آخر لا نعرفه لهنري، أو كابوس يعيشه أحدنا أو نعيشه بدون إدارك لحقيقته. وللأسف الكوابيس الحقيقية المُعاشة لا تبدو عامرةً بهذه الجماليات، إذ لا يصنعها ديڤيد لينش، الذي ينصحنا “بأن نشعر بهذا الفيلم لا أن نفكّر به”7،  وقد التزمت بنصيحته بشكلٍ جزئي، فشعرتُ ثم فكّرت وحاولت النبش عن معانٍ في قلب هذا الغموض. وربما هذا الفيلم بالنهاية تجربة حسية، تُفهَم، لكن من الصعب شرحها وهذا حال الأشياء المُتقَنَة في الوجود.

1.معلومة شخصية عن علاقتي بهذا الفيلم: هو من أوائل أعمال لينش التي عرفت عنها، لكني لم أشاهدها. لقد هناك على الدوام خوف، توجّس، وباعثه ليس أنّي شاهدت إعلانه أو مشاهد ولقطات منه أو قرأت شيئًا عنه، حرفيًا لم أرى منه شيء إلّا صورة واحدة: صورة الملصق الرسمي للفيلم الذي يظهر فيها “البطل” هنري بشعره الغريب ونظراته القلقلة المفزعة.. فقط لا غير، وكانت هذه الصورة كفيلة لإثارة الريبة والابتعاد عن الفيلم وتجنّب معرفة شيء عنه، وما عزّز هذا الشعور أنّ أوّل عمل شاهدته للينش قبل أكثر من 12 عامًا كان الطريق السريع المفقود (1997)، وبعده لم أستطع النوم جيدًا لمدّة أسبوع تقريبًا! لكن هذا الأخير ومع كل الارتياب والقلق والغرابة التي فيه، يبدو مجرّد تسالي.. مقارنةً بـ”رأس الممحاة”.

2.النقد والحقيقة، رولان بارت، ترجمة: إبراهيم الخطيب، منشورات الجمل.

3.يقول كريس رودلي في حواراته مع لينش: إنّ كافكا دائماً ما يحضرنا عندما ذكر “رأس الممحاة”، ويسأل لينش: هل تحب ما قدّمه كافكا؟ فيجيبه: “نعم! هو الفنان الذي أشعر أنه أخي. لا أحب قول ذلك لأن أول ردة فعل دائماً ما تكون: “نعم أنت والجميع إخوتي مثل كافكا”، لكنني فعلاً أكن له الكثير، فبعض كلماته سحر لا مثيل لها. ولو كتب “كافكا” صورة عن جريمة ما، لوددت بالتأكيد أن أخرجها.

4.مذكّرات ديڤيد لينش، ترجمة عبد الله ميزر، سلسة الفن السابع، العدد 192، منشورات وزارة الثقافة السورية – المؤسّسة العامة للسينما

5.في الحوارات مع كريس رودلي، لا يبدو لينش معارضًا للقراءات التي تنتهي بشكلٍ حتمي إلى نقطة فرويدية، ويقول إنّه يتفّهم هذه الأشياء السيكولوجية.

6.يقول لينش، إنّه كن جالسًا في أحد الأيام في غرفة الطعام ورسم صورة المرأة في المشعاع دون أي يعرف من أين جاءت، لكنه يؤكّد أن كانت تحمل معنىً كبيرًا عندما رآها أخيرًا مرسومة.

7.في مقدّمته للحوار الذي سيدور حول “رأس الممحاة” يقول رودلي: هذا الفيلم يُعاش أكثر مما يُشرَح. المرجع السابق.