محرّكات الإبادة: دينية أم دُنيوية؟

ثمّة اقتباسٌ للمؤرّخ “الإسرائيلي” إيلان بابيه، شاعَ تداوله مؤخرًا، يقول فيه: “معظم الصهاينة لا يؤمنون بوجود الإله، لكنهم يؤمنون بأنّه وعدهم بأرض فلسطين”. بصرف النظر عن سياقات الاقتباس، إلّا أنّ كلام بابيه يبدو قريبًا من المنطق، بعيدًا عن التناقض؛ إذْ بِقدَرِ ما تبدو “إسرائيل” دينية وبالرغم من الثيمات التوراتية/التلمودية لحرب الإبادة والتهجير المستمرّة ضدّ قطاع غزة، إلّا أنّ هناك شيئًا لا دينيًا في جرائم أفراد عصاباتها. ولا يَعني هذا أنّ الدين اليهودي -أو غيره- بريءٌ من الإجرام؛ ففي النُصوص الدينية مَقاطعٌ تَدعو إلى الخير وأخرى إلى الشر، مَزيجٌ من الرحمن والشيطان يحَتارُ المرء بخُصوصه. لكن، لا تعود الحقيقة مُهمّة، فالمؤلّف -بالاستعارة من قاموس رولان بارت– قد مات، وقُرّاءُ أعماله “الكاملة” في اللحظة التي يُفسّرون أعماله يَقتلُونَهُ ويُصبِحُون هُم: المؤلّف.. والإله.

إيلان بابيه

 منذ أيام الأب الشرعي للصهيونية وصاحب فكرة “دولة اليهود” ثيودور هرتزل، “اليَهودي المُلحِد”، مرورًا بـزئيف جابوتنسكي،مؤسّس الحركة التصحيحية الصهيونية -اليهودي المُلحد أيضًا- كان هناك سعي دؤوب لإجبار الخرافات -أو النبوءات سَمِّها ما شئت- على التحوّل إلى حقائق، وغَصْبٌ لما هو سَرْمَدي على الذوبان في الزمن، واستدعاءٌ للحوادث المُنتَظَرَة قبل ميعادها. وكأنّ الصهاينة بل الحركة الصهيونية منذ بداياتها، كان لسانُ حالِها: لماذا ننتظِرُ اليد الإلهية لكي تتدخّل؟ لماذا علينا كيهود قوميًا وعرقيًا (وهم قومية مصطنعة وعرق متوهّم، وفي ذلك حديثٌ آخر) أن ننتظر المسيح الخاص بنا؟ وكأنّ هناك عدم إيمان بكل هذه “النُبوءات الدينيّة” و”الوعود الإلهية” ويقينٌ لا يُخالِطُهُ شكٌّ بأنّ مملكة “إسرائيل” لن تقوم بالتدخل الإلهي، ربّما لأنّ إلهَهُم الخاص بِهِم ليس موجودًا إلّا في عقول المُتديّنين مِنهُم، وإنْ كان هذا لا يعني أنّ “الصهاينة المُتدينين” لا يؤمنون بحتمية مجيء المسيح من نسل “الملك داود”، ويُثيرون الرُعب ويُمارسون الإرهاب لتعجيل مَجيئه كما تفعل ديانات وطوائف أخرى.

يهوديان مُلحِدان وللصهيونية مُتحمّسان

هُنا يتجلّى منظورٌ ماديٌ بحت، علماني بالمُطلق، إلحادي بدون هوادة، “دارويني اجتماعي” متطرّف، في الرؤية الصهيونية، مفاده أنّ دولة اليهود ستقوم بأيدٍ بشرية ولن تَنتَظِر يهوه ولا مَسيحَهُ. ستقوم بـ”دَهاءٍ يهودي” وبدعمٍ غربي، وبأي طريقة حتى لو كانت دعم المسيحيين الإنجيليين لـ”إسرائيل”، لتعجيل قدوم مسيحٍ -أي يسوع- لا يؤمن به اليهود!

كذلك، إنّ ممارسات هذه “الدولة”، تعكس رؤيةً “نيتشوية” –نسبةً إلى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه- مهووسة بالقوّة وترى فيها الطاقة المُحرّكة للأشياء والتي يَتمحوَر التاريخ البشري حولها وتبدأ كل الأشياء منها وتنتهي عندها؛ فَكرنَفالُ المجازر اليومية المُتنقّل ما بين شمال وجنوب قطاع غزة ورفح، والذي يَستعير بواعث التعبير عن نفسه من نصوصٍ توارتية وتلمودية ويُشارك فيه مرتزقة و”نَازيون جُدُد” -يا للمفارقة-، يبعَثُ برسالة مفادُها: “نحنُ نتحدّى الإله.. لا، نحنُ الإله نفسه، نحنُ تجسيدٌ مثالي للإنسان الفائق/الإنسان الأعلى الذي لا يحتاج إلهًا؛ إذ نقوم بأعمال هذا الأخير وقُدُرَاتُنا تُضاهي قُدُرَاتِه: نقبض الأرواح، نُشيّد جحيمًا على الأرض ونُقيم عروضًا يومية لأهوال يوم القيامة. وبما أنّه لا جنّة ولا نار هُناك، سنُقيمُ على هذه الأرض جَنّةً للشعب المُختار ونارًا لـ”الأغيار”.

وفي إحالةٍ إلى الكليشيه الدوستوفسكي من رواية “الإخوة كارمازوڤ”: “إنْ كانَ الإله غير موجود.. فكل شيء مُباح!”، تبدو “إسرائيل” مقتنعةً تمامًا به؛ فالإله غير موجود، وإذًا كل شيءٍ مُباح.. لكن لي فقط، فأنا الإله والآلهة الأخرى غير موجودة، أنّا الكيان الفوضوي/اللاسُلطوي الحقيقي الوحيد، الذي لا سُلطة تعلو فوق سُلطة عنفي المادي اللامحدود.

كل ما ذُكِر، لا يعني هُجومًا على المنظور المادي أو العلمانية أو شيطنتهما، إنّما الافتراض بأنّ “الدولة اليهودية” أخذت هذا المنظور والنهج وذهبت به لأقصى مدى وطبّقته بتطرّف، مع إلباسه لبوسًا دينيًا وتطريزه بثيمات تلمودية وإعطائه شيئًا من الإثارة برشّة من قصص العهد القديم، تمامًا كشخصيّة أليكس في فيلم “المُرشِد الأعلى للسينمائيين” الراحل ستانلي كوبريك “برتقالة آلية” (1971)، الشاب المادي حتى النخاع -أي أليكس- الحيوان البشري، الهوموسابيان أو العاقل (وحقيقة أنّه عاقل لا تعني أنّه عقلاني أو دوافعه عقلانية) الذي يعتنق الداروينية الاجتماعية بالفطرة، حتى دون أنْ يعرف ما هي. ويُحافِظ على بقائه بخليطٍ لائق من العنف المُتطرّف والاغتصاب وإدمان الجنس. حين يقرأ أليكس الكتاب المقدّس لا تَستهويه إنسانية المسيح ودَعوتُه للمحبّة والسلام في “العهد الجديد”، بل قصص “العهد القديم” عن الحرب والعنف والإبادة والجنس، ويجدُ فيها ضَالَتَهُ! لمَسةٌ جمالية وفنيّة و”تُراثية” يحتاجها أليكس كما تحتاجها “إسرائيل” لتُزيّن الوحشيّة وتُضفي تنويعًا وطَيفًا من الألوان على اللون الأحمر الطاغي للدم.

A bit of the old ultraviolence

أيضًا، يُذكّر الصهاينة وتذكّر أفعالهم المجرمة ووجودهم “الشاذّ” بشخصيّة علي الحفني في فيلم الجزيرة – الجزء الأوّل (2007) (التي أدّاها بروعة غير مُستغرَبَة الراحل الكبير محمود ياسين) حين يقول لخليفته منصور الحفني (أحمد السقّا): “الناس اللي زيّنا الدُنيا ديه جنّتهم!” فهذه الدُنيا جَنّة الصهاينة ومن أجلها يفعلون ما يحلو لهم. لذلك، وانطلاقًا من تَصوّرنا هذا، ليسَ مُستغرَبًا أن ترى مُخرِجًا سينمائيًا بارعًا مثل كوينتن تارانتينو مؤيّدًا لـ”إسرائيل”؛ ففي أعماله البشر حقيرون وتافهون ولا قيمة لحياة الإنسان، وحِينَ يُقتَل شاب بالخطأ -كما في فيلم خيال رخيص (1994)– ليس الحدث الأهم هو مقتله، بل كيف سنُنظّف جثّته وأشلاءه والفوضى التي افتعلها قاتل حين ارتكب “القتل بالخطأ”! وهذه ليست مُحاكَمة أخلاقية أو “أخلاقوية” للسينمائي؛ فباعتقادي وبوصفي مُحِبًا مُخلِصًا للسينما، ليسَ لهذا الفنّ العظيم حدود وضوابط أخلاقية وصانع الأفلام ومُوجّهُها المُبدِع والأصيل عليه أنْ يكون لاسُلطويًا، فيرفُض أيّ سُلطة تعلو على سُلطة إبداعه ويتمرّد على كل من يحاول الحدّ من إطلاق العنان لخياله، وفي ذلك حديثٌ آخر في مقالٍ آخر في مقامٍ يَليقُ به.

الناس اللي زيّنا الدُنيا ديه جنّتهم!
Lots of cream, Lots of sugar

إنّ هذا الكيان -باختصارٍ ربّما يبدو مُخِلًا- هو مزيجٌ من إلحاد “عاقل” يوڤال نوح هراري، و”لاعقلانية” إلَه التوراة. وليسَ في هذا المقال أي تأكيدات أو حتميّات حول دينية أو لادينية “إسرائيل”، أو كما يقول نيتشه المذكور في مَتنِه: “ليسَت هُناك حقائق، بل تأويلات”. وتأويلُنا أنّ هذا كيان مادي حتّى النُخاع، لا يأبه بأيّ قيم، والإله غير موجود بالنسبة له، والبقاء للأصلَح، وبالتالي يفعل ما تشتهيه نفسه وما يجعلُه الأقدَر و”الأليَق” على التكيّف مع شروط البقاء، فيَقتُل أعداءه كبارًا وصغارًا دون رحمة، لأنّ هذه الأرض جنّته وليسَ ثمّة من سَيُحاسبُه.. لا محكمة عدل على هذه الأرض، ولا محكمة في أرض أخرى.. أي العالم الآخر، غير الموجود بالنسبة له.

يوڤال أم يهوه؟