والتر وايت متحرّرًا من قيد الحياة العارية وصانعًا المعنى في مختبر الموت

«إنّهم كما الموتى الأحياء، على قيد الحياة لدرجة الموت، وميّتون لأقصى درجة من أجل الحياة»

مجتمع الاحتراق النفسي – بيونچ-شول هان

الموت هو أكثرُ احتمالٍ مؤكّد، لكن هل هو أسوأ احتمال؟ بالإمكان الإجابة بسهولة: لا؛ إذْ هُناك ما هو أسوأ بكثير: الحياة نفسها حين نكونُ موتى فيها، أو نعيشُ الموت في حياتنا ومن أجلها! وخيرُ مثالٍ على ذلك شخصيةٌ يعرفها الجميع، ليست واقعيةً لكنّها مخلوقةٌ ومكتوبةٌ من صلصال الواقع الإنساني، وفي رحلتها وتحوّلاتها رمزٌ للإنسان الحالي/المُعاصِر.. أو بالاستعارة من القاموس النيتشوي: الإنسان الأخير.

الحديث هُنا عن بطل مسلسل بريكنچ باد، والتر وايت، الذي تحوّل من قاطنٍ في أرض الاستقرار إلى مسافرٍ في “أرض الخوف”، ومن كائنٍ ميّتٍ في حياته، إلى كائنٍ حيٍ في مماته، حينَ ارتحَلَ من ضَيق حياة الإنسان الأخير، عبر جسر الإنسان الذي لا بُدّ من تجاوزه كما يقول فريدريش نيتشه، إلى سعة ورحابة الإنسان المُغامِر العاشق للخطر، الذي يشعُر بأنّه حيّ لأوّل مرّة وموجودٌ في العالم، الإنسان العائِش في قلب الرعب، المُستَمتِع بـ”الاستجابة الإثباتية للحياة” -التعبير لنيتشه أيضًا- وهو مُرتمٍ في أحضان المغامرَة ومُنتَشٍ بالصِراع مع وحوشٍ أضخم منه!

دور “التورّطات” في التحوّلات

ظاهريًا تبدو حياة والتر آمنةً -إلّا من الناحية المادية- لكنها مُمِلّة! حياةُ رَجُل عائلة، تتلاعَبُ به زوجته سكايلر التي تُحيل إلى الأنثى الفاتنة/اللعوب1 (Femme Fatale) في “الفيلم الأسود/فيلم النوار2 (Film noir)، وربما لو حُذِفَت شخصيّتها، لما فعل وايت عُشر ما فعله؛ إذْ كانت من المُحفّزات الرئيسة لتحوّله إلى ما أصبَح عليه فيما بعد.. إلى هايزنبرچ، قالب موازين عالم المُخدّرات ومُقوِّض نظامه وقاتل قياصرتِه.

تتحكّم سكايلر بزوجها، فتُحدّد مَعالِم طريقه وتَرسُم له أهداف حياته التي يمشي فيها مُكِبًّا على وجهه، تَكبِت دوافِعَهُ وتقمَعُ غرائِزهُ، فيما هي تَخونُه بلا حَرَج. وكما كانت تفعل الأنثى الفاتنة/اللعوب في الفيلم الأسود، الذي تبدو شخصيّتها متأثّرةً بالسرديّة التوراتية-القرآنية لحَوّاء ودورها في إسقاط آدم من الجنّة، تُمارِس سكايلر ألاعيبها وإغواءها على زوجها لتُسقطه.. لكن ليس بالضرورة من الجنّة إلى الأرض!

ولا يَقتَصِر الأمر على سكايلر، فحتّى أكثر رجال المسلسل “استقامةً”، عديل والتر، الضابط في إدارة مكافحة المخدّرات في ألباكركي هانك شريدر، يلعَب دورًا في تحوّل والتر إلى هايزنبرچ؛ عبر تقليل تقديره له واعتباره شخصًا عاديًا، “نَكِرةً” -حتى ولو لم يُصرّح بذلك- وانتصارُه لأناه على حساب تقزيم “أنا” والتر، وتدخُّله بحياة هذا الأخير وتأثيره على ابنِه مع ممارسته لما يمكن تسميته بـ”استعراض الفُحُولة” أمام عديلِه.

هانك كان يُحِبُّ عديلَه، لكنّه ذلك النوع من الحُبّ الذي يُقدّم للآخرين مَمزوجًا بالاعتقاد بأنّ صاحبه أدرى بمصلحتهم ويحقُّ له ممارسة الوصاية عليهم. ولقد استطاع والتر أن يضع لهذه الوصاية والتدخُّلات حَدًا عند نقطة مُعيّنة.

إنّ الأسرة/العائلة هي بالنهاية وبتعبير مارتن هيدچر “تورُّطات غير مُختارة” وجدنا أنفسنا مُقحَمين فيها. وهذه التورُّطات إمّا أن نَهرُب منها أو نتمرّد عليها أو نَقبَلَها ونتعايَش معها، وقد تمرّد والتر عليها ورفض قمعها له لكن دُونَ أن يَهرُب منها أو يخسرها حتى بعد خُسرانه لحياته؛ إذْ في خِضَمّ تورُّطاته الكبرى، جَاهَدَ ليترُك شيئًا لتورُّطاته غير المُختارة وليحميها من تورُّطاته المُختارة.

العمل مُنتِجًا للمَهانة والمَلَل

هذا تأثير “مؤسّسة” الأسرة/العائلة والزواج، وهناك مؤسّسة أخرى تُشارِكُها دورًا مُهمًا في هذا التحوّل: العمل. حين يكون العمل مُنهِكًا وتحديدًا على الصعيد النفسي بدرجاتٍ أكبر من البَدَني، كما هو حال مِهَن العبودية “الطوعيّة” -نسبيًا- اليوم، فإنّه يقود الإنسان صوب “الاحتراق النفسي” والاكتئاب.. وربما الجنون. وحينَ يكون مُمِلًا، فإنّ المرء يشعر بأنّه سجينٌ داخل روتين قاتل، بأنّه عالقٌ في حلقة مُفرَغَة، بأنّ الحياة تَسبِقُه، ولا يشعُر أثناء رحلتها بشيء، ولا يموت فيها ولا يحيا. أمّا الجنون بدرجاته المختلفة فليسَ مُستَبعَدًا!

عَمَلُ والتر كمُدرّس كيمياء كان جامِعًا بين المَلَل وبين مهانةٍ يتعرّض لها من الجميع، حتى من طلبته! ولم يكن من دافعٍ وراءه إلّا دعم عائلته ماديًا والاستمرار في حياة منزوعة المذاق. أمّا وظيفته الثانية كـ”كاشير” في محطّةٍ لغسيل السيارات، فكانَت شبه مماثِلة لتلك الرئيسة، مع وجبةٍ مضاعفةٍ من الإذلال والمهانة يُقدّمها مدير المحطّة عريض الحاجبين.

والتر وايت، جاك تورانس والجوكر في مواجهة المَلَل

قبل عرض بريكنچ باد بـ28 سنة، أي في عام 1980، كانت هُناك حالةٌ مشابهةٌ لبطله، أخذت مآلاتٍ مختلفة بشكلٍ جذري، لكنّ مزيج العائلة والزواج والعمل والمَلَل والكبت، كان موجودًا لدى الحالتين. الحديث هُنا عن جاك تورانس (جاك نيكولسن) من بريق ستانلي كوبريك. هناك بالطبع عشرات بل مئات التأويلات للبريق، لكنّي أرى أنّ الدوافع الرئيسة وراء تحوّل تورانس إلى الجنون هو المَلَل الذي خَلَقَهُ “تَحالُف العائلة والزواج والعمل”، إلى جانب حياةٍ مكبوتة ومدفونة يبدو أنّ تورانس لم يَعِشها، ويَتمظهَر ذلك في “مشهد البار المتخيّل” وفي عبارته المعبّرة عن غرقه في بحار الجنون والانهيار:
All work and no play makes Jack a dull boy

جنون تورانس هو تعبيرٌ عن رفض المَلَل، عن أنّه يريد أن يحيا حقًا وأن يشعر بوجوده في العالم، وربما شعر بالحياة التي كان يَفقِدُها حينَ فَقَدَ عقله، على نحوٍ مشابهٍ لجنون جوكر واكين فينيكس وتود فيليبس الذي أحسّ بوجوده في العالم وبأنّه حيّ، سَاعةَ تَخلُّصه من الكبت وشُعوره بالسعادة مع ممارسته لفعل القتل!

لكن والتر بعكس تورانس والجوكر، لم ينجرّ للجنون؛ لقد استثمر كلّ هذا المَلَل المتراكم وكل هذا الكبت الشامل، ليتحوّل إلى الشيء الذي يجب أن يكونَ عليه، ليُوقِظ الغوريلا المقموعة في داخله ويُطلِق لوحشيّتها العنان، وليشعر بأنّه موجودٌ في العالم وبأنّ هناك حياةً يجب أن تُعاش وبأنّه يجبُ تعويضُ ما فات قبل أن يحين مَوعدُ المَمَات.

إرادة الجنون وإرادة التوحّش

صحيحٌ أنّ و.و مارس فعل القتل مثل الجوكر، لكن ممارسته للقتل لم تَقِف خلفها “إرادة الجنون” كما هو الحال مع مُهرّج چوثام. لقد كان قتلًا عمليًا وبراچماتيًا -إنْ جاز الوصف- يَقتُل لأنّه مُضطرٌ لذلك، ليجلب مَنفَعَةً ويَدفَع ضَرَرًا ولعدم امتلاكه تَرَف التفكير والانتظار أو الاستماع لنصيحة نيتشه “بأن ينتبه جيّدًا ألا يتحوّل إلى وحش أثناء مُنَازَعَة الوحوش”، وقد تحوّل إلى واحدٍ منهم! إنّها إرادة التوحّش الضرورية في عالمٍ وحشي -عالم ألباكيركي الافتراضي وعالمنا الواقعي- سواء كان وُحوشُه مُتحضّرون في المظهر مثل چوستافو “چَس” فرينچ، أو همجيون في المظهر والجوهر مثل آل سالامانكا.

من ذا الذي يَحيَا اليوم؟

إلى جانب “التورّطات” غير المُختارة والعبودية المُختارة -نسبيًا مجدّدًا- التي ساهَمَت بتحوّل والتر وايت إلى هايزنبرچ، ثمّة شيءٌ لا يختاره الإنسان أو بإمكانه اختياره عند انسداد كل الطرق أو حين يكون أفضل الطرق الممكنة، وكان صاحب حصّة مساهمة أكبر في هذا التحوّل الجذري.. إنّه: الموت نفسه!

مع تشخيص السيّد وايت بمرضه، ودُنوِّ الموت منه، لاحَ في الأُفق سؤالٌ كان قد طرحَهُ القدّيس بولس ويَذكُره سلاڤوي چيچيك: “من ذا الذي يَحيَا حقًا اليوم؟”. ماذا لو لم يكن والتر حيًا طيلة خمسين عامًا من بقائه على قيد الحياة؟ ماذا لو كان قد أهدر دفعةً كبيرةً من أقساط عمره من أجل الاستقرار وحارمًا نفسه من الإبحار في صفحات كتاب الحياة من أجل هوامش وحواشٍ على متن هذا الكتاب؟!

مأزق آخر البشر

في سِياق حديثه عن فيلم أطفال الرجال (2006) للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، يرى چيچيك أنّ هذا العمل ليسَ عن العُقم بوصفه “مشكلة بيولوجية”؛ فانعدام الخَصَب في فيلم كوارون مُعضِلة شخّصها نيتشه منذ زمن بعيد، حين رأى كيف أنّ الحضارة الغربية كانت مُندَفِعَةً في اتجاه “مأزق آخر البشر”، حيث الإنسان مخلوقٌ فَاتِر، من دون أي شغف والتزام عظيم، عاجزٌ عن الحلم، تَعِبٌ من الحياة، لا يٌخاطِر ولا يَطلُب سِوى الراحة والأمن3.

الشيء ذاته ينطبق على بريكنچ باد؛ فهو ليسَ مسلسلًا عن السرطان كمرض، بل عن سرطان “البقاء ما بعد-الميتافيزقي” بوصف چيچيك الذي يقول إنّ “آخر البشر” في ظل هذا البقاء ينتهي به الأمر إلى استعراضٍ فاقدٍ لحياةٍ تُجَرجِر أذيالها كأنّها شَبحُ ذاتها. وهذا حال بطل هذا المسلسل، الذي َكان كذلك ضحيّةً لما يُطلِقُ عليه بيونچ-شول هان بـ”عنف الإيجابية” الذي لا يَفترِض ولا يتطلّب العداء، ويتكشَّف على وجه التحديد داخل مجتمعٍ يتمتّع بـ”السلاسة والدَعَة”، وهاتان الصفتان الأخيرتان كانتا طاغيتان على حياة السيّد وايت وعلى عالمه “المُتحضِّر”.

التقنيات السرديّة للتغلّب على الموت

والتر وايت هو الابن الشرعي لهذا المجتمع “الوديع والسلس”، وقد كان يعيش في كَنَفِه حياةً جرداء/عارية مُكرَّسة من أجل البقاء، خالية من مما يُطلِقُ عليها هان بـ”التقنيات السرديّة التي من شأنها التغلّب على الموت”. كان وايت فاقدًا روح الحياة من أجل البقاء “على قيد الحياة”، وكانت هذه الجملة الأخيرة تأخذ دلالةً سلبية؛ حيث الحياة المُجرّدة هي نفسها القيد الذي يَربِط ويُعيق ويُضيّق ويَخنِق الإنسان.

صناعة المعنى في مختبر الموت

لكن العَدَم وقُربَهُ من ديار وجود وايت، والحقيقة القاسية التي قدّمها الزمان له بأنّ الرصيد المتبقّي منه ليس كافيًا لإجراء المزيد من إتلاف الحياة، جعله يفكّ هذا القيد. وبدأت مسيرةُ التحرُّر من الحياة العارية الجرداء مع صناعة والتر شبه العاري في الصحراء الجرداء للميثامفيتامين في عربة الكرفان، وكان في تلك اللحظة قد استهلَّ مشوار صناعة المعنى وطهي السرديّة في مختبر الموت، وكان لتفاعُل البقاء مع قُرب الفناء مفعولٌ سحري؛ إذْ أخرَج الحيَّ من الميّت وكانت المنايا أماني ذاك الرجل الشاعِر بالحياة الحقّة غير منزوعة السحر!

انغَمَسَ والتر في مشروعه الواهب للمعنى وأعطى لهُويّة صاحب المشروع الجديد اسم هايزنبرچ، ومشروعه هذا كان مقرّه في أرض الخوف -باستعارة عنوان فيلم المخرج المصري الكبير داود عبد السيّد والراحل الخالد أحمد زكي-، وأعمالُه كانَ يُديرُها في مكاتب الخطر. أمّا الموت فأصبح تهديدُه مَضاعَفًا؛ إذْ تدخّل البشر فيه إلى جانب مرضه، لكنّه مع كل مرّة كان يتلقّى فيها تهديدًا، يتجاوز ذلك ليُصبح هو التهديد. وفي كل مرّةٍ يُمارِس فيها فعل القتل، فيُنهي حياة عدوّ ويُرسِل خصمًا برحلةٍ بلا عودة إلى العدم، كان يُشكّل حياتهُ من جديد ويَخلِقُ طريقته في الوجود.

وكلّما ارتفع منسوب الخطر والمغامرة في “مشروع هايزنبرچ” الواهب للمعنى، كان يَشعُر صاحبهُ بوجوده في العالم، ومع كل مواجهة مع العدم.. كان يصبحُ “فردًا موجودًا” على حد تعبير كيركچرد، ورُّبَمَا كان القتل فِعلًا “شرّيرًا” لكنّه خلق لوالتر حياةً “خيّرة”، فكما يقول كيركچرد: “الحياة الخيّرة لدى الشخص هي تلك التي تُحقّق الشرط المُتعلّق بالعيش بوصفه فردًا”.

جدلية السيّد والعبد أو: القدرة على الموت

في سياق حديثه عن جدليّة هيچل للسيّد والعبد، يقول بيونچ-شول هان، إنّ الطرف الذي يَخرُج كسيّدٍ هو ذاكَ الذي لا يخافُ الموت، حيث الرغبة في الحريّة ونيل الاعتراف والظفر بالسُلطة، تَستَنهِض السيّد لتجاوُز الاهتمام بالحياة العارية. ويُضيف هان بأنّ الخوف من الموت هو ما يدفعُ العبد مُستقبَلًا إلى إخضاع نفسه للآخر؛ إذْ يُفضّل العبودية على التهديد بالموت ويتمسّك بالحياة العارية. ويرى بأنّ ما يُثبَت بوصفه عنصرًا حاسمًا في هذه الجدليّة الهيچلية هو “القدرة على الموت”، وهؤلاء الذين لا يملكون الحريّة التي من الممكن أن تُكلّفهم حياتهم، لا يملكون المخاطرة بهذه الحياة، وبدلًا من مواصلتهم للقتال حتّى الموت فإنّهم يُفضّلون أن يظلّوا وحدهم داخل الموت!

إنّ التحوُّل من والتر وايت إلى هايزنبرچ، من رَجُل العائلة الضعيف الهزيل وصاحب العمل المُمِلّ إلى صانع الكريستال ميث ثم صاحب إمبراطورية مخدّرات يجني من ورائها مئات الملايين ومُصارِعٍ ماكر لأشرَس الوحوش، هو تحوّلٌ من العبد المُخضِع نفسه للآخر (الزوجة، العائلة، رب العمل، المجتمع، القوانين…) الوحيد داخل موتٍ في الحياة، إلى السيّد الذي يعترف به الجميع، الظافر بالسلطة، المالك للحريّة، و”صاحب السيادة” -عند نيتشه- القادر على خلق أوقات الراحة، والقادر على الموت وقدرته هذه تمنحهُ حُريّةً وحياةً حقيقيّة. هذا التحوّل أماتَ العبد الذليل المُمِلّ العالِق في “مأزق آخر البشر”، وأحيَا نقيضَهُ، ذاك الذي يتحدّث عنه نيتشه: الحامل لشيءٍ من الفوضى كَي يَلِدَ نجمًا راقصًا!

بهجة المُضيّ قُدُمًا لمُقابلة الموت

بعكس الحكايات والقصص التي يَفرُّ فيها الإنسان من الموت أو يختبئ منه في بروجٍ مُشيّدة لكن دون جدوى فيُلاقيه في النهاية ويُدركُه أينما كان، توجّه والتر وايت شَطرَ الموت، مُقتَفيًا أثر هيدچر الذي يرى بأنّ “الدازاين” (وجود الإنسان)4 لا يكون أصيلًا بحقّ إلّا في توجُّهِهِ شطر الموت، مُنتَشيًا لا من الميث الذي كان يصنعه دون أنْ يتعاطاه، بل من المُضِيِّ قُدُمًا لمواجهة الموت، ليكونَ مُضَادًّا لأولئك “الموتى الأحياء”، وواحدًا من الّذين يَحيونَ أثناء حياتهم عبر موتهم، الذين تَكمُن ماهيّتهُم في الوجود، وكينونتهم في الحَيَويّة.

الحَيَويّة التي يُفترَض أن تكونَ نقيضًا للموت والعَدَم، تُوجَدُ في حُضنِهِما، في قبلةٍ منهما، ليكتَسِبَ الوجود الإنساني “المُؤقّت” صِفَة “الخلود” حتّى بعد نهايته وليتمتَّع بالحضور في ظلِّ غيابه، كما هي أُسطورة هايزنبرچ -وربما سول چودمان حين اتّخذ جيمي ماكچيل قرار الاعتراف بجرائمه وتحمّل السجن المؤبّد لصناعة شيء من المعنى وتخليد أسطورته– حتى بعد مرور 10 سنوات على نهاية هذا العمل الذي يبدو أنّ مُهندِس كونِه الأعظم ڤينيس چيليچان قد زوّدَهُ بخاصيّة أن يكونَ مُضَادًا للزمان، فلا يتأثّر بالوقت، كما هو موضوع “الحياة والموت”.

مصادر:


– هكذا تكلّم زرادشت – فريدريش نيتشه، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل.

– نقيض المسيح – فريدريش نيتشه، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل.

– ما وراء الخير والشر – فريدريش نيتشه، ترجمة: جيزيلا فالور حجّار، مراجعة موسى وهبه، دار الفارابي.

– دليل أكسفورد في الفلسفة – تحرير: تِد هُندرتش، ترجمة د. نجيب الحصادي.

– المُعجَم الفلسفي – د. جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة.

– مجتمع الاحتراق النفسي – بيونچ-شول هان، ترجمة بدر الدين مصطفى، منصّة معنى.

– مُعاناة إيروس – بيونچ-شول هان، ترجمة بدر الدين مصطفى، منصّة معنى.

– العنف: تأملات في وجوهه الستّة – سلاڤوي چيچيك، ترجمة فاضل جتكر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

– مرحبًا في صحراء الواقع – سلاڤوي چيچيك، ترجمة أحمد حسّان، دار العين للنشر.

– الكينونة والزمان – مارتن هيدچر، ترجمة: د. فتحي المسكيني، مراجعة: إسماعيل المصدق.

هوامش:

1 . حول الأنثى الفاتنة/اللعوب (Femme Fatale)، يمكن قراءة مقال قديم كتبناه عام 2016. وقد قامت جريدة الأنباء الكويتية بالسطو على المقال ونسبه إليها بعد عامين ونصف تقريبًا من نشر جابر حيّان للمقال عبر صفحته على الفيسبوك، لذلك اقتضى التنويه.

2 . للمزيد حول الفيلم الأسود/فيلم النوار، يمكن مُراجعة هذا المقال من ويكيبيديا، بترجمة مهنّد الجندي.

3 . لاحقًا يتساءل چيچيك: “أليس هذا التناقض الذي أطلقَ عليه نيتشه عدمية “سلبية” و”إيجابية”؟ ويُقارِن بين الغرب و”الإسلاميين الراديكاليين”، فيقول: نحنُ في الغرب “الرجال الأخيرون” غارقون في بحرٍ من المُتَع والملذّات اليومية البليدة والغبيّة، فيما “الأصوليون الإسلاميون” مُستعدّون للمخاطرة بكل شيء ويَنخَرطون في صراعٍ عَدَمي وصولًا إلى مرحلة تدمير الذات!” (المصدر: العنف: تأملات في وجوهه الستّة).

4 . دازاين (Dasein) هي كلمة ألمانية مركّبة من da (هُنا، هناك) وsein (يكون)، وهي حرفيًا تعني: أن تكون/توجد هُناك. وعند هيدچر هي كينونة الموجود الإنساني أو كيفية وجوده. ولمّا كان العالم في تبدّل مستمر كانت هذه الكينونة الإنسانية غير مستقرّة على حال. وماهية الإنسان هي وجوده، وحقيقتُة هي نزوعه إلى ما يريد أن يكون؛ فهو إذن يحدّد ذاته بذاته وينسج جميع إمكاناته بيديه، ويجاوز بفعله حدود الواقع وينفتح على العالم. (المصدر: المُعجَم الفلسفي ودليل أكسفورد في الفلسفة).

مصادر:

– هكذا تكلّم زرادشت – فريدريش نيتشه، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل.