
للوهلة الأولى قد يبدو إنهاء العلاقة بين “الصديقين الحميمين” في فيلم بانشيات إنيشِرين أمرًا مستغربًا ومستهجنًا و”قاسيًا”؛ فَلمَ الآن وبعد مُدّة طويلة تُنهى علاقة صداقة بدافع الملل ولأنّ طرفًا فيها أدرك أنّه ما عاد يُحبّ الطرف الآخر وأنّ أَمامَهُ بقايا حياة تستحقُّ أن تُعاش في الفن والتجارب لا في الأحاديث المملّة؟!
الصداقة على دفتر حسابات التسلية والملل
لكن إنهاء الملل لهذه الصداقة ليسَ أمرًا مستغربًا تمامًا -وإن كان لا يخلو من الاستنكار-؛ فلهذه القوّة التي تُشارِك الموت والمرض حرفهما الأوّل، قدرة جبّارة على تدمير علاقات حب وزواج وصداقة، وبإمكانه في حالاته المتطرّفة أن يقود للجنون، كما فعل في “بريق” ستانلي كوبريك، حين لعب الملل دور المحفّز لجنون بطله “الكاتب” وشُروعِه بقتل زوجته المُملَّة وابنِه المُضطَرِب وكتابة نهاية مُريبة لحياته. لكن علينا أن نسأل هُنا: كم كانت هذه الصداقة قوية؟ هل كانت صداقةً حقيقية أساسًا ونحنُ لا نعرفُ عنها الكثير سوا كلام أهل جزيرة إنيشِرين المُتخيّلة عن “الجدالات المُتجدّدة” لهذين الصديقين كولم (برِندون چليسون( وبادريك (كولِن فارِل). السؤال الأهم والأولى طرحه: هل الصداقة خاضعة لحسابات الملل والتسلية؟
الجواب على آخر سؤالٍ يبدو صعبًا أو مُعقّدًا؛ فالصداقة كما نعرفها وألفناها أو كما يُفترض تصوّرنا حولها: صلبة، متماسكة، ولا تعيش حالة دائمة من التبدّل والتحوّل والتنقّل. ومَن نُسمّيه صديقًا مقرّبًا، نعرف أنّ بيننا وبينه ما يتجاوَز تبادُل المنافع الماديّة وإن كان من الطبيعي وجودها لكن لا تكون هي الأساس. كذلك نعلم أنّه ليس مطلوبًا منّا لعب دور المُهرّجين أو الحكواتيين لبعضنا، ُنسلّي ونخفّف عن بعضنا لكن لا نعمل في وظيفةٍ بدوامٍ كامل كمرفّهين لبعضنا. وليس شَرطًا للصداقة أن يكون أطرافها نُسخًا عن بعضهم (هُنا إحالة لإدراك كولم بأنّ بادريك لا يُشبهُه وبأنّه أكثر عمقًا وتركيبًا منه) كما في الحُب أيضًا. ببساطة ثمّة الكثير من العفوية والبساطة والأصالة في الصداقة، وهذه الصفات كانت موجودةً في بادريك.
البشر كسلعٍ في السوق الحرّة للتواصُل
لكن حينَ نُصبح نحنُ أنفسنا سلعًا، لا بالنسبة لرأس المال، بل لبعضنا، في السوق الحرّة للتعارُف والتواصُل، على الفور تَخضَعُ الصداقات لحسابات التسلية والمتعة، وتُبنى على تبادل ومُقايَضَة سلعٍ ذات طبيعة غير تجاريّة لكنّها لا تخلو من تجارة. وعند هذه النقطة تحديدًا يمكن فهم هذا التغيير الذي أنهى العلاقة والتحوّل الذي طرأ على شخصية كولم، فجعله ينظر للأشخاص من حوله كسلعٍ تُجرَّب ويُستفاد منها وتُستهلَك ليتم قذفها في مكبّ نفايات العلاقات، وهذا الشيء ينطبق على عالم الروابط الإنسانية اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وإن كان حاضرًا في الفيلم الذي تدور أحداثه قبل مائة عام تقريبًا.
منذ مطلَع هذا العمل الذي أخرجه صانع الأفلام والمسرحي الأيرلندي البريطاني مارتن ماكدونا، صاحب “في بروج” (2008) و“المختلّون السبعة” (2012) و” ثلاث لوحات خارج إيبينغ، ميزوري” (2017)، نرى لقطاتٍ لأقنعةٍ داخل بيت الموسيقي المثقّف كولم، ربما تُخبِرُنا بأنّ الرجل عاشقٌ لارتداء الأقنعة وأنّه طيلة علاقته ببادريك كان يرتدي واحدًا منها هو قناع “الطيبة” و”اللُطف”، ليخفي وجهه الحقيقي النرجسي، مع أنّه ينكر هذه النرجسيّة، كما ينكر إصابته بالاكتئاب، لكن الاكتئاب والنرجسيّة في حالة كولم صِنوان لا يفترقان.

الأًسر في جحيم النفس
في كتابه مُعاناة إيروس1، يرى الفيلسوف الألماني من أصل كوري جنوبي بيونچ-شول هان، أنّ الاكتئاب في الأصل هو مرضٌ نرجسي، والذات النرجسيّة المُكتئِبَة تَستنزِفُ نفسها وتتداعى من تلقائها، وهي بدون عالمٍ يَسكُن فيها وقد هُجِرَت من قبل الآخر. ويبيّن هان، أنّ الاكتئاب يعمل على استغراق الذات داخلها وتقوقعها، لتبحث “ذات-الإنجاز النرجسيّة” -كما يَصِفُها- عن النجاح الذي يتحقّق عبر الاستحواذ على الآخر، فتسعى لسلب الآخر من آخريته، ليرتدّ إلى مرآتها؛ مرآةٌ تؤكّد صورة الأنا فقط.
هذا التوصيف يمكن بكل سهولة إسقاطه على كولم: ذاتٌ نرجسيّة مُكتئِبَة، وقبل أن يَهجُر صديقه بادريك، كان هو ذاتهُ مهجورًا من فكرة الآخر ومتقوقعًا في أناه، ولقد تخلّى عن صداقة بعيدة عن المصالح، ليُجرّب مذاق صداقات جديدة يبحث من خلالها عن النجاح والإنجاز من خلال سَلب الآخر من آخريته ليتردّ إلى مرآته التي تؤكّد صورة أناه. لم يستَطِع كولم سلب آخرية بادريك وجعلها مجرّد صورة عن أناه.. فَنَبَذَهُ، ولم يَجِد مُخرَجاتٍ من هذه الصداقة سوا تبادُل الأحاديث وتناوُل الكحول، فنفاه.
يتظاهَر كولم بأنّه مرتاحٌ بهذا الوضع، أو ربما يَظنّ بصدقٍ أنّه كذلك، لكنّ المُعلَن عن مُحيّاه وما تنطق به أفعاله يشي بعكس ذلك: تدخينه بأسىً لوحده ووحيدًا، اعترافاته للراهب في الكنيسة، وحتّى ما فعله بأصابعِه الخمسة، وهذا الفعل الأخير تحديدًا يَكشِفُ عن نرجسيةٍ مُكتَئِبَةٍ مُختَلِطَةٍ بابتزازٍ عاطفيٍ لصديقٍ تم هَجرُه: إذا كنت تهتمّ لأمري وتحبّني فعلًا، لا تَكُن سببًا في فقداني موهبتي المُعتَمِدَة على أصابعي! إنّ كولم بلا شك مُنجِزٌ وناجحٌ بعكس صديقه بادريك، لكن وكما يقول هان -مجددًا- إنجازاته الاكتئابية تغوص في نفسها وتختنق في داخلها، وهو وإن بدا مُفعَمًا بالإيجابية إلّا أنّه “أسيرٌ في جحيم نفسه” بحسب توصيف هان الدقيق والبديع.
على الضفّة المقابلة، ثمّة النقيض والضدّ لكولم، صديقه “السابق” بادريك، الذي يجد ذاته في الآخر كما هو ويذوب فيه دون أن يصبحَ صورةً عنه. بادريك بسيط و”أصيل”، يُجاهِد لإصلاح العَطَب الذي حلَّ بعلاقته مع صديقه، إيمانًا منه بأنّ الناس ليسوا قطع غيارٍ يمكن استبدالهم في أيّ وقت، ولا يتعامل مع الصداقة كموضوعٍ للاستهلاك. من خلال علاقته بحيواناته، نأخذ فكرة عن أصالة بادريك ورِفقِه، مع أنّ هذا الرِفق يُصبُح محطّ سخرية الآخرين، وأحد الأسباب التي تدفع صديقه كولم لوضع حدٍّ لهذه الصداقة! لكن حتّى رفق بادريك لا يدوم.. فبعد موتِ حمارته التي يُحبُّها ويَرفِق بها، يحدث تحوّلٌ في شخصيّته يجعله يفعل ما هو عكس الرفق تمامًا، فيَحرِقُ منزل صديقه.

الحرب الكُبرى مَفرَخة لحروبٍ صُغرى
في خلفية هذه الصداقة منتهية الصلاحية، ثمّت حربٌ طاحنة وطازجة: الحرب الأهلية الأيرلندية، وقد يبدو هذا الصدع الآخذ بالتوسّع في العلاقة بين الصديقين مجرّد إسقاطٍ رمزي لهذه الحرب، وهذا الرأي الأخير، مذهبٌ قد يذهب إليه الكثيرون، فيختزلون قصّة هذه الصداقة المُتآكِلَة في الحرب الأهلية، في شخصٍ بسيط غير مبالٍ بها، وآخر عميق وملتزم وثوري. يبدو هذا الفهم أو التأويل للفيلم متماسكًا ومنطقيًا جدًا، لكنّي أميل إلى الاعتقاد بأنّ الأفراد وصراعاتهم مع أنفسهم والآخرين من حولهم هي المركز والمَحوَر، أمّا الحرب بين المؤيّدين والمعارضين للمعاهدة الإنكليزية الأيرلندية، فتبدو في الهامش.
لا شك، أنّ الحرب -أيّ حرب- على أرض الواقع هي الأساس والمِحوَر، وهي المُؤثّرة في ما حولها، والصانعة للتحوّلات والخالقة لشّتى أصناف الأزمات. لكن في هذه القصّة يتم الابتعاد عمّا هو جمعي وتصغير الحرب الكبرى، لتكبير الحروب الصغرى بين الأفراد، وتقريب نزاعاتهم الفردية من المركز أكثر. وربما لا أعرف كثيرًا عن الحرب الأهلية الأيرلندية، لكنّني أعرف الكثير عن الحروب الأهلية في منطقتنا العربية، وعن تفريخها لحروبٍ أُخرى، صغيرة الحجم، قويّة التأثير، تدور رحاها بين الناس العاديين، بين أفراد يكونون في كثيرٍ من الأحيان عن مركز الصراع وبؤرة الصراع بعيدين، وبطريقة ما وبالنسبة لهؤلاء الناس تُصبِحُ هي الأساس!
مزيجٌ سُريالي
لكن هذا الفيلم لا يتوقّف عند حدود كأسٍ من مزيج الصداقة والحرب التي تؤثّر بها أو الملل الذي يَسحقُ عظامها الهشّة، إذ يتجاوزها ليقدّم كوكتيلًا من الكوميديا والتراجيديا مع كسرِه بالسواد القاتم، يتم إعداده على يد ساقٍ مُحتَرِف وصاحب عدّة كتابية ومهارات إخراجية غير عادية، هو مارتن ماكدونا. يخلِط ماكدونا ببراعة بين ما هو عادي -أو اعتيادي- كالصداقة والرِفقة وبين ما هو غريب ومنفّر ومُريب مثل قطع كولم لأصابعه الخمسة. وعلى سيرة هذا القطع، هُناك ذاك المشهد الذي يُجهِز فيه كولم على آخر أصابعه ويمشي باتجاه بادريك وشقيقته والدمّ يَقطُر من يده مبتورة الأصابع. لو قُطِعَ هذا المشهد من سياقه، ولو شوهِدَ لوحده خارج أسوار الفيلم دون أنّ نعرف شيئًا عن خلفيّته، لبدا مشهدًا من فيلم رعبٍ دموي.

كذلك، يَحضُر غموضٌ ممتزجٌ ببُعدٍ ماورائي، يتمظهَر في ميتاتٍ لا ندري كيف حدثت، وفي تلك المرأة العجوز “السيّدة ماك كورميك” المتنبّأة بتلك الميتات، والتي يتمحوَر عنوان الفيلم حولها؛ إذ تبدو هي تلك “البانشية” أو الجنية/الحورية (ليست ترجمة دقيقة)، وهي روحٌ أنثوية أسطورية من التراث الأيرلندي، تنذر بالشؤم واقتراب الموت، عبر الصراخ والنحيب. هذه العجوز/البانشيّة تبدو وكأنّها في دارٍ للعرض السينمائي تستمتع بمشاهدة أشخاصٍ يموتون في الحرب وآخرون عاديون يموتون بشكلٍ عاديٍ لدرجة التفاهة على شاشة هذه الجزيرة، وتُتابع وهي تدخّن غليونها مسلسل موت صداقة وقتل علاقة.
في شخصية هذه العجوز الأشبه بملك موتٍ خاصٍ بهذه الجزيرة المُتخيّلة المعزولة، ثمّة إحالة إلى شخصية الموت في فيلم الختم السابع (1957) لإنچمار بيرچمان، لكن عوضًا عن ممارسة البطل العائد من الحروب الصليبية، للعبة الشطرنج مع الموت نفسه من أجل البقاء، يلعب الموت نفسه الشطرنج بسكّان الجزيرة -الذين لا ليس بينهم أيّ بطل- وبأولئك الذين تدور بينهم رحى الحرب. والإحالة لا تستدعيها شخصيّةٌ واحدة فقط، بل أيضًا الموت المُشتَرَك القابع في الخلفية؛ ففي بانشيات إينشِرين، ثمّة نذيرُ شؤم بخاتمةٍ أو خواتم سيئة يلوح بالأفق بفعل الحرب وتبعاتها وإفرازاتها، وفي الختم السابع هناك نذيرٌ بخاتمة سيئة هي الموت بسبب الطاعون الأسود.

بين جزيرة ماكدونا ومنارة إيچرز وطيور هِتشكوك
يذكّر بانشيّات إينشِرين كذلك، بفيلمٍ آخر صدر عام 2019: عملٌ تعتريه حالة من القلق والارتياب وانتظار شيء مشؤوم في النهاية، المنارة الذي أخرجه الشاب روبرت إيچرز. تتشابه المنارة مع جزيرة إينشِرين من حيث هيمنة الغموض عليها واستعمار الرعب المجهول لها. أيضًا ثمّة رابطٌ روحي بين العجوز الناحبة المنذرة بالشؤم وحورية بحر منارة إيچرز التي تظهر في خيالات وهلاوس الشاب توماس هوارد (روبرت باتِنسون) وتتلاعب فيه ليمضي قدمًا في مسعاه الخائب لاكتشاف سرّ المنارة.. لتمهّد له طريق السقوط في حفرة أعظم أسرار الوجود.. العدم!
وفيما يتعلّق بالرعب غير المفهوم والغموض العصيّ على التفسير، يُحيل الفيلمان إلى طيور الإنكليزي ألفريد هِتشكوك؛ ففي الأعمال الثلاثة ثمّة رعبٌ ما ورائي، حيث تتصرّف الطيور والنوارس وشخصيات إينشِرين على نحوٍ لا يمكن فهمه بالعقل أو تفسيره بالعلم -في فيلم الطيور تُحاوِل إحدى العالمات تفسير الظاهرة بأدوات العلم وتفشَل!- ممّا يُعطي إحساسًا بأنّ هذه المخلوقات الطائِرة تتخبّطها الشياطين من المسّ أو تتلبّسُها أرواحٌ شريرة أو هي نتاجٌ لمؤامرةٍ مُعقَّدةٍ يستحيلُ فهمها بأدوات العلم والمعرفة، لأن مصدرها خارجي/غير بشري. في جزيرة إينشِرين لا تتمثّل هذه القوّة الماورائية في كياناتٍ محدّدة، إنما تبدو موجودةً بشكلها المجرّد، كقوةٍ خفيّة تلعب بكلّ شيءٍ حيّ حتى تسلب منهُ الحياة.

جبل الجليد الغائر
لكن ما هو غير مفهوم، لا يقتصر على ما هو “ماورائي”؛ فهناك ما يشبه “جبل الجليد الغائر” وتحديدًا في شخصيات البطلين، اللذان تبدو الكثير من جوانب حياتهما غير مفهومة: لِمَ يغيب البعد العاطفي/الرومانسي عن حياة الرجلين؟ وكم يبدو منطقيًا ما ألمَح إليه الراهب في الكنيسة من علاقة مثلية كانت تجمعُ بينهما؟ مع استبعادها في سياق الفيلم، لكن في سياقٍ آخر قد تبدو جدًا مُحتَمَلة! لا حُبّ ولا علاقات جنسية في حياة بادريك وكولم، وقد يبدو الأمر مفهومًا في حياة الأخير بالنظر إلى سنّه وتجاربه، لكنّه ليس كذلك مع الأوّل، مع بادريك الرجل الطفل، البالغ غير الناضج، الذي لا يزال يعيش مع أخته وتربطه بها علاقة اعتمادية -وربما قد نُغالي ونَصِفُها بالطُفيلية- تبدو فيها أقرب للأم من الأخت.
إذًا لا يَقتَصِر اضطراب الشخصية على كولم، فحتّى بادريك ذلك البسيط الأصيل العفوي، مُضطَرِب،؛ فإضافةً إلى عدم نضجه وعلاقته الاعتمادية بشقيقته، يُوحي رفضه لقطع علاقة كولم به وردود فعله تجاه هذا القطع، بأنّه يعاني من بعض أعراض “اضطراب الشخصيّة الحدّية”، ممثّلة في صعوبة تحمّل الوحدة، والرعب من الهجر والخوف من الفقد، التي بدأت تظهر منذ أن قرّر كولم إنهاء كل شيء، مرورًا برحيل أخته بعيدًا عنه لكل تعيش حياةً طبيعية. ومع أنّها لا تعني إصابته بهذا الاضطراب تحديدًا كون الأعراض الأخرى لا تظهر عليه ولا نراها، لكن ملاحظة هذه الأعراض الظاهرة أمرٌ تجدر الإشارة إليه.
التوزيع العادل للاضطرابات على جزيرة الموت
ومع ذلك، يُمكن الردّ على ما سبق، بأنّ بادريك بحكم أصالته وبساطته وعدم تعامله مع البشر كقطع غيار -كما ذُكِرَ سابقًا-، رفض قطع علاقةٍ وثيقة، واختار أن يكون عنيدًا ولا يمضي قدمًا في حياته ولا يتنازل عن إقامة شخصٍ في مساكن قلبه، لكن الشعرة الفاصلة بين ذلك، وبين أعراض اضطراب الشخصية الحدّية، من الصعب العثور عليها وبالتالي الخروج بقولٍ فصل في حقيقية ما يجري. لكن الواضح أنّ هناك اضطرابًا.. في الحقيقة هذه الجزيرة يتوزّع الاضطراب فيها على الجميع بالتساوي (الشرطي المضطرب الممارس للعنف ضد ابنه، وابنه التائه، وحتّى سُقاة الحانة وروّادها وربّما حيوانات الجزيرة (وهُنا عودة إلى الجانب الماورائي!).
القطيعة السهلة ضد القطيعة المستحيلة
إنّ باب بانشيات إنيشِرين مفتوحٌ على عشرات التأويلات والقراءات، ولا يَعلَم تأويلها الحقيقي إلّا صانعُه مارتن ماكدونا والراسخون في الفيلم! لكن بعيدًا عن التأويلات وقريبًا مما هو شخصي ومُلامِس أكثر للفردي ولليوميّ المُعاش، تبقى الصداقة والملل والعلاقات هي نواة هذا العمل، ومن الصعب عمل قطيعة معها ونحنُ نشاهد قصّةً عن قطيعة مع صداقة وطيدة، لنستحضرَ صداقاتٍ مقرّبة آمنّا بأنّه لا يُفرّقها الدهر وانفرط عقدها في بضع سنين، وصداقاتٍ أخرى كنّا المبادرين لإنهائها، لا لأنّنا كنّا نتعامَل معها كموضعٍ للاستهلاك، إنّما لأنّها كانت تستهلِكُ حياتنا، ونباتات صداقات أخرى ذبلت أوراقها مع الأيام، مع عدم سقايتها بالقُرب الجُغرافي وتأثّرها بتغيّر الاهتمامات وتعاظم الالتزامات، لكنْ هُنا على المرء أن يسأل مجدّدًا وبجدّية أكثر: هل كانت كل هذه صداقات؟!
في النهاية يبدو من من السهل نسيانُ الحرب بكل واقعيّتها الفجّة وعمل قطيعةٍ معها، لكن الأمر ليس كذلك مع الصداقة والمشاعر التي تأتي من ضمن عبوّتها والعواطف التي تتخلّلها والذكريات التي تبقى منها والجروح التي تُخلّفها؛ فالقلب يتقطّع لهجر الأوهام، لقلّة ما في الإنسان من حقيقة2، كما جاء على لسان الكاتب الفرنسي فرانسوا-رينيه دو شاتوبريان ذات مرّة.

مراجع:
- مُعاناة إيروس – بيونچ-شول هان، ترجمة بدر الدين مصطفى، منصّة معنى.
- من مقدّمة الترجمة العربية، لكتاب جان بودريار “المُصطَنَع والاصطناع”، ترجمة جوزيف عبدالله، المنظّمة العربية للترجمة.