
قد يأتي الانطباع الأوليّ عن فيلم “الحارة” الأردنيّ، على هيئة سؤالٍ تَعجُّبيّ: كيف لعملٍ بهذا الشكل أن يكونَ أردنيًا؟ لكن الفيلم ذاته يُثبِت أن هذا السؤال فيه شيءٌ من السطحيّة والاختزاليّة وأن التعجُّب ليسَ في مكانه أبدًا؛ إذ يَكشِفُ لنا أنّ عمّان ملاى بكمٍ هائلٍ من الإمكانات، والحديث ليسَ محصورًا بالإمكانات التقنية والإخراجية التي تُفاجئنا، بل أيضًا بتلك البشريّة المُمثّلة بطاقمٍ يُفجّر طاقاتٍ كامنة، والأهم الإمكانات المكانية لعمَّان كمدينة، التي تَنبَجِسُ في الكاميرا على نحوٍ لم نشهدهُ من قبل. والأمر ليسَ حول أنّها تبدو أجمل على الكاميرا من الواقع، بل في ظهورها كما هيَ بكل ما تحمِلُه من جماليات في مَكامِن خللها ومواضِع عُيوبِها.
ليسَ ثمّة مُبالغة، حين نقول إنّ الفيلم الذي كتبه وأخرجه الأردني باسل غندور عام 2021، يَطفَح بالمفاجآت والصدمات، فمع أوّل دخول إلى الحارة يتكوّن شعورٌ بأنّ قصّة علي (عماد عزمي) ستأخذ منحى درامي – رومانسي، وربما سيحظى بنهايةٍ متوقّعة، شبه سعيدة، حيث علي سينالُ ما يُريد بعد تجاوز مِحَنِه مع نفسه قبل الآخرين، أو رُّبَمَا نهاية على النقيض تمامًا لكنّ علي يستحقّها، حيث نراهُ مسجونًا أو قتيلًا على يد البلطجي عبّاس (منذر رياحنة) وعصابته. لكنّ الحارة صعد طابقًا آخر فوق أعلى قمّة أسوأ الأحوال” وقفز منها، ليُقتَل علي فعلًا، لا على يد عبّاس بل بمِقَصِّ تَغرِسُه أسيل (نادرة عمران) صاحبة صالون الشعر وأم حبيبته لانا (بركة رحماني) في رقبته بالخطأ.
هناك جُثّة.. لا أريد للسجّادة أن تتلطّخ بالدماء!
كم يبدو هذا “القتل بالخطأ” صادمًا لنا ومُروّعًا لقلوبنا؟ جدًا! لكنّه لا يعني شيئًا لأسيل! وبعكس توقّعاتنا، لا تأتي الشرطة وتُلقي القبض عليها أو تُسلّم نفسها أو تنجو وتعيش بصُحبة تأنيب الضمير، بل يكون هَمُّها الأكبَر أنْ لا تتّسخ سجّادة صالونها بدم علي، في ما يُشبه إحالةً إلى أفلام كوينتِن تارانتينو وتحديدًا Pulp Fiction في الجزء المُعنوَن بـThe Bonnie Situation.أما زوجها السابق “توتو” (نديم الريماوي)، فيتخلّص من جثّة علي بحرقها في حاوية قمامة في مكانٍ مكشوفٍ شرق عمّان وكأنّه يتخلّص من مجموعة صورٍ وذكريات غير مرغوبٍ فيها، بإطعامها للنيران!
مرحبًا في حارة الواقع!
كل هذا يبدو مُستهجَنًا ولامعقولًا ولا إنسانيًا بالضرورة، لكنّه -بالضرورة أيضًا- ليس خياليًا، إنّها حادثة تَحدُث وواقعة تَقَع في حارة الواقع الكُبرى، سواء في شرق عمّان أو غربِها وبعيدًا عن عمّان وفي كل مكان في هذا العالم! فالإنسان عند استسلامه لقانون هذه الحارة وحينَ تجرفه سيولَتُها الأخلاقية، سيفعل كل شيء ممكن، سيستَبيح الآخرين وسيرضى بأن يُستباح لأجل أن يُحافظ على بقائه في الحارة.
ومن يَرى أن ما حدث لا يَحدُث أو هي حالة نادرة وقد جرى تضخيمها؛ فكما يقولُ المثل العامي: “حارتنا ضيّقة وبنعرف بعضنا!”. وبعضنا يعرف جيّدًا عالم النوادي الليلية ودهاليزه القذرة والصراعات الضاريَة عليه، أو على الأقل ذَهَبَ إلى نادٍ ليلي ذات يوم أو ليلة وشاهد ما وجده مألوفًا في الفيلم. والبعض الآخر له معاناة مع الابتزاز والتهديد بالفضح وتشويه السمعة، وكثيرون مرّوا بتجارب مريرة مع فارضي أتاوات وبلطجية، نصيبٌ كبيرٌ منها موثّقٌ في المحاكم ومراكز الشرطة والصحف والمواقع الإلكترونية ومنصّات “التواصل”. ومُجدّدًا: ما في يَحدُثُ في فيلم الحارة يَحدُثُ في حارة الواقع، لكنّنا نختار إشاحَة وجوهنا عن هذا الواقع أو نُنكِر وجوده، وفي كلتا الحالتين ثمّة أزمة عميقة.
بين الأم وفتاة الليل، هل هنالك فرق؟!
وكما يحدث في حارة الواقع، تصدمنا بعض الأحلام الكبيرة حين تتقزّم فتتأزّم أو تتضخّم لدرجة الانفجار، لتتحوَّل بالنهاية إلى كوابيس لا أمل بالاستيقاظ منها، كما حدث مع علي في مآساته. مع أنّ الأخير كان بإمكانه التحلّي بمقدارٍ قليلٍ من العقلانية وبلع تهديد عبّاس له والسعي وراء مَنفَعَتِه، وكانت أحداث قصّته -وقصص الآخرين- لتأخذ منحى أقل مأساوية، لكن يا لقلّة ما في الإنسان من عقلانية ويا للعقلانية كم يُمكِن أن تَصِلَ إلى درجةٍ عاليةٍ من البرود كما هو حالُ أسيل، الأم التي لا تبدو مختلفةً كثيرًا عن فتيات الليل اللَّاتي يعملن في “نادي الطاووس الليلي” المُتخيّل (لكن الفتيات حقيقيات!)؛ فأسيل غايتُها تُبرِّر أي وسيلة، حتى لو كانت تَعريةَ ابنتها لانا وامتهانها، لتبلغ غاياتها والتي من ضمنها الحفاظ على حياة ابنتها وحماية سُمعتها.. ويا للمفارقة!
الهامش مُنتَقِلًا إلى المركز
قطار المفاجآت لا يتوقّف عند محطّة، يَصدِمُنا، فنَمتصُّ الصدمة، فتُفاجئنا أُخرى! مثلًا، يُفاجئنا تحوّل بعض الشخصيات من الهامش إلى المركز، ومن الأطراف إلى المحور، مثل بهاء (محمد الجيزاوي) الذي ينتقل من دورٍ هامشي أو ثانوي -بأحسن الأحوال- كمُجرّد حلاّق و”كشّيش حمام” وصديق لـ”علي”، إلى لاعبٍ رئيسي في سير الأحداث، وإلى رجلٍ متابعٍ وملاحظٍ لكل شيء من بعيد، ومؤمنٍ بأنّ مسار الأحداث يمكن تصحيحُه بالتلاعب به حتى بعد وصوله إلى خطّ النهاية، وأنّ ما حدث وانقضى أمره يمكن إعادة إنتاجه بروايتِه من جديد، ليصبح شيئًا آخر تمامًا؛ فبالنهاية ليَست الوقائع كما وقَعَت هي ما يُهمّ، بل سرديّتنا لها.. على الأقل بالنسبة لأشخاص مثل أهل علي؛ فموت ابنهم الآن هو قضيّتهم لا قضيّته، قضيّة سمعته وذكراه، والرمز هُنا يغدو المركز والحقيقة هي الهامش.
بين الحارة وذيب: أبطال بلا بطولة
هذا الانتقال أو التحوّل شاهدنا شيئًا مُشابِهًا له في فيلم كتبه أيضًا باسل غندور -إلى جانب مُخرجه ناجي أبو نوّار- عام 2014 وهو ذيب، حين يَغدو الفتى البدوي ذيب الشخصية المِحوَرية في القصّة، بعد أن كان مجرّد تفصيلٍ قابعٍ على الهامش، لتصبح المعركة في سبيل الاستقلال عن العثمانيين، في الخلف، ولتتصدّر المشهد معركة ذيب في سبيل البقاء.
الأبطال في الحارة -وكذلك في ذيب– هم أبناء الهَامِش، القابعون على حواشي كتاب الحياة، وبطولتهم ليست من اختيارهم؛ فالظروف تُجبِرُهُم على لعب دورها. والبطولة هُنا ليست بالضرورة تلك ذات المعنى الإيجابي كما في بطولة الأبطال الخارقين، بل تعني شيئًا أبسَط من ذلك: أن تُصبِحَ في الواجهة، أن تتصدّر الحَدَث وَتلعَب دوراً رئيسًا في تغيير مسارِه أو حَرفِه عنه.
بطلٌ مهمٌ آخر، لا يَملِك أي مُقوّمات البطولة ولا خَصلة من خِصال الأبطال، هو الراوي، الذي نترقّب معرفة هُويّته، فنصدم بالنهاية: إنّه إحدى الشخصيات الأكثر هامشية.. صبري (إسلام العوضي)، مُبتَزُّ أسيل وابنتها لانا، الذي يُشاهِد كل فضائح المدينة من بعيد ويُوثّقها عبر عدسة كاميرته. إنّه الرجل الذي يعرف كل شيءٍ عن العالم الخفيّ لهذه الحارة، وعن الجوانب السريّة لسكّانها ويحفظ كل زاوية مُظلِمَة فيها وفيهم، ويَعيشُ على ما يعرفُه عنهُم.. وعلى لا يَعرفونَه عَنه!
لكن الهَامِش المُرتَحِل للمَركِز ليسَ الأشخاص فقط، بل كذلك عمّان نفسها وتحديدًا شقّها الشرقي الذي يغدو هو المَركِز في قصّة الحارة، فنرى طَيفًا من جوانبه المختلفة وشخصيّاته المتنوّعة، بعكس أعمالٍ أخرى أردنيّة، كانت تَختَزِلُ هذه المدينة الكبيرة الغنيّة بطبقاتها ومكوّناتها ومنابتها في شطرٍ واحدٍ، في عمّان الغربية، وتحديدًا في طبقة وحيدة منها: بُرجوازية ومُنفَصِلَة عن وَاقعها.
هُناك طيف واسع من المآسي.. لكن لا مُتّسع للحُزن واللطميات
بالرغم من مأساويّة أحداث هذا العمل، إلّا أنّه يتجنّب الانزلاق إلى دراما مُبتذَلَة يسودُ فيها العويلُ والنحيبُ واللطميّات وتُرافِق أحداثُها موسيقى تَستمني حُزنًا ليس في مكانِه كما هو الحال في كثيرٍ من الأعمال السينمائية والتلفزيونية العربية المستمرّة على هذا النهج منذ عقود. وعِوضًا عن ذلك، يَخلِط إحباط خيبة المَسعى وتفاهة انتهاء الحياة بكل بساطة وبُرودة العنف وهَول المآسي، بموسيقى تُحاول التقليل من شأن ما يَحدُث ولا تأخُذُه بشدّة على مَحمَل الجد. ويُعزّز ذلك كلُّه أداءٌ يمزج بين الطرافة والقتامة، يُقدّمه نديم ريماوي من خلال شخصية “توتو”. وبما أنّ الحديث عن الأداء، يَصطَفُّ إلى جانب ريماوي طابورٌ طويلٌ من النجوم الّذين يقنعونك بأنّهم مُتمكّنون ولا يُمثّلون، أبرزهم: محمد الجيزاوي، ميساء عبد الهادي.. وبالطبع نادرة عمران!
وبعيدًا مؤقّتًا عن المَضامين والمُحتوى، تبدو الكاميرا مُحبّةً لوجه عمَّان، وتَبرُز مَفاتِنُ مِعمارها وعُمرانها أكثر في الظلام، حينَ ينجح الليلُ وظِلالُه وأضواؤه الخافِتَة في إبراز جماليات الأزقّة والشوارع والأدراج والعمارات المهجورة والأبنية القديمة المُهتَرِئة أو المَبنيّة بشكلٍ مُخالِف. تلك العشوائية التي نراها كل يوم تتحوّل إلى لوحة مُنظّمة والفوضى تبدو مُرتّبة وجاهزة للخروج في الكادر بأفضل صورة.
ومع ذلك، وبطبيعة الحال، هُناك جملةٌ من المآخذ على الحارة، ولأنّ المقام لا يتّسِع والوقت لا ينتَظِر، سأكتفي بذكر أهمّها، بدءًا من النهاية التي تبدو مُتسرّعةً وحَلّت قبل أوانها؛ إذْ كُنتُ أتمنّى نهايةً مختلفة لعبّاس، تتطلّب المزيد من الوقت وتكون منطقيةً أكثر؛ إذ كم من السهل والواقعي أن يقتل شخص بحجم بهاء وقُدراته وتجاربه شخصًا أضخم وأعنف وأشرس منه؟ لكن ربّما هو الدهاء الذي يغلب أقوى الأقوياء!
أصحاب الحارة يتسرّعون في القفز للنهاية
كذلك، كَمْ مقدار الواقعية ونسبة التماسُك في ما فعله بهاء مع أهل علي من تلفيقه للقَصص والشخصيات لإنقاذ ذكرى ابنهم والحفاظ على سمعته/م؟ أيضًا، كنت أنتظر تَعمُّقًا أكثر بعلاقة عبّاس بهنادي، على الصعيد الشخصي وبعضٌ من الأنسنة لعبّاس؛ أي تناولُه كإنسان قبل رجل عصابات. الخُلاصة، هُناك شوطٌ ما قبل نهائي قفز عنه الفيلم. وفي النهاية عَاشَ الجميع على الأكاذيب، فَلَم تُشرِق شمسُ الحقيقة على شرق عمّان وغَرَبَت عن غَربِها، ويبدو أنّنا في ردود فعلنا على هذا العمل نفعل مثلهم!
مَأخذٌ آخر مُهمٌ وجوهري، هو انتزاع قطعة الحارة من اللوحَة الكُبرى لعمّان بشرقها وغربها، وانتشالُها من سياقها الاجتماعي والاقتصادي، حيث لا يَأخُذُها كظاهرة مُركّبة ومعقّدة تتراكَم في قلبها الأزمات وتتجمّع في باطنها التناقُضات، حيث مشاكِلُها هي نتيجةٌ للطبقيّة وسياسات الإفقار ونهج التهميش.
الفرد: المركز، المجتمع: الهامش
لكن لنَعُد لما يُقدّمه ويَقولُه الفيلم، لا لتأويلاتنا ولا لَمَ ننتَظِرُه منه: يُركّز الحارة على الأفراد ومعاناتهم مع -وبسبب- مُحيطهم الاجتماعي ومع أنفسهم كذلك -مثل علي-، ويبدو سائرًا على خُطى ذيب، حيثُ الفرد -وصراعه- هو المركز، وإنْ بدا للكثيرين، للّذين يَرونه من بعيد، من عُلوّ، مُجرّد كائنٍ صغير، غير مُهم، قصّة قصيرة على هامش روايةٍ كُبرى. وكما يقول فرانز فانون، فإنّ الإنسان/الفرد هو الذي يتحقّق المجتمع من خِلاله، ويُضيف فانون في كتابه “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” بأنّ التشخيص يكون بين أيدي أولئك الذين يُريدون حقًا زعزعة البُنى المَنخُورة! فهل زَعزَعَ “الحارة” أي بُنى مَنخُورة؟ أو لنُعِد صياغة السؤال على النحو التالي: هل أرادَ ذلك أساسًا؟!
دفاعًا عن السينما لا الفيلم
وبِصدَدِ عكسه للواقع أم لا، فإنّ الحارة ليس بالضرورة مرآةً للواقع، وليسَ مطلوبًا من السينما بشكلٍ عام أن تكون كذلك! يُمكن لأيّ فيلم أن يقدم الواقع كما هو أو نظرته له أو رؤيته البديلة والافتراضية وأن يذهب لأقصى أبعاد الخيال؛ ليست ثمّة من قيود أو حدود.
أما ما يُقال عن تعميم الأحداث والشخصيات على عمّان وأهلها وإيصال صورة أنّ كل سكّان الحارة هم مجرّد نُسَخٍ عن سكّان العاصمة، فليس ثمّة من دليلٍ عليه والفيلم لا يقول أبدًا أنّ هذا حالُ الشعب كلّه! والحارة بين أيدينا وكل شيءٍ في صفحات كتابها وَاضِح: القصص مَحصورةٌ في قلب حارةٍ هي نسخةُ عن حارات الواقع وهي -أي القصص- فيها بعضٌ مما يجري داخل تلك الواقعية واختبرناه ويختبره بعضنا، وعلى نحوٍ ذكي يَتجنّب صنّاع الحارة الخروج لما هو أبعد منها أو تجاوز أسوارها إلّا نادرًا. بالطبع هي تتأثّر بالحارات المُحيطة بها وتنعَكِس أزمات المُدُن التي حولها عليها، ومن جديد: المركز كما ذُكر أعلاه، هو الفرد ومعاناته ومآسيه وصراعه من أجل البقاء والباقي يَقبعُ على الهامش.
وحولَ أنّ هذا العمل لا يُقدّم حلًا للمشاكل ولا يوفّر علاجًا لأزمات الحارة في الفيلم والواقع، فهل هذه وظيفة السينما أو إحدى وظائفها؟ هل مطلوبٌ منها أن تحلّ وتُعالِج وتُصلِح؟ حسنًا، بإمكان فيلم أن يُقدّم الحلّ الذي يُريده ووصفة العلاج التي يعتبرها مثالية، لكن ليسَ مطلوبًا من كل فيلم أن يفعل ذلك.. في الحقيقة ليسَ مطلوبًا من أي فيلم أي شيء! إلّا أن يكون وعظيًا أو تعبويًا أو دعائيًا أو مُنتَصِرًا لأيديولوجيا مُحدّدة أو مُدافعًا عن مشروعٍ واضح المعالم، أو جزءًا من حملة إعلانية أو خُطّة تسويقيّة، أو عملاً تُنتجهُ دولة ويُعرَض على قنواتها الرسمية.
في النهاية، هذا عملٌ لا يُؤلَّهُ ولا يُشيطَن، تمامًا كغيره من الأعمال السينمائية وذلك بَدَهي! تَكرَهُه، تُحبُّه، تُهاجمُه، تَمتَدِحُه، تَنتَقِدُه، تَستمتِع بِه، تَملّ منه، ترفُض مَضمُونَه وتَحتَقِر رِسالتَه/رَسائله… إلخ. لكن ليس بِوسعِ أَحدٍ أن يُحدّد لهُ لائحةً بما يَجبُ أن يقول أو لا يقول وبما يجب أن يظهَر فيه أو لا يظهَر وهل يَجبُ أن يَعكس الواقع أم لا.
ولنتخيّل أنّ صنّاع سينما عُظماء، التزموا بلوائح “ما يجب” و”ما لا يجب”، أو كان كان همّهم الأكبَر أن تكون أعمالهم مرآةً للواقع أو مُلتَزِمَة بما يُريده جمهورهم ويَصنعون أفلامًا ليُقدّموا حلولًا ووصفاتٍ علاجيّة، حينها ما كُنّا -مثلًا- لنرى ستانلي كوبريك وهو يَبتَدِعُ تُحفةً مثل بُرتقالة آلية أو ما كنا سنَنبَهِرُ بديڤيد لِنش وهو يخلط الواقع بأكثر الكوابيس رعبًا في الطريق السريع المفقود، أو لحُرمنا من لذّة الاستمتاع بغرائب شخصيات عوالم الأخوين كوين أو جنون كوينتِن تارانتينو الدموي!