
من السهل التقاط كثير من “المُتشابهات” والأشياء المتوقّعة في فيلم البصل الزجاجي، مثل ملاحظة التشابه بين الملياردير المُتخيَّل مايلز صاحب شركة “ألفا” وأصحاب المليارات من روّاد شركات التقنية الكبرى و”فاعلي الخير” و”المُحسنين”، وتحديدًا “إيلون ماسك”، الذي يبدو أنّه يُهاجَم في كثيرٍ من الأعمال السينمائية والتلفزيونية على نحوٍ رمزي مؤخّرًا، أكثر من غيره من “أيقونات الرأسمالية الملساء الناعمة” كما يصفها سلاڤوي چيچيك1، وهذه الشخصية سبق ورأيناها في أعمالٍ أخرى مؤخّرًا مثل لا تنظروا إلى الأعلى ورأس العنكبوت، وحتى قبل ذلك من خلال شخصيّة ليكس لوثر، الشرير الشهير من عالم القصص المصوّرة “دي سي” وعدوّ سوبرمان الرئيسي.
شبحٌ هِتشكوكي ينتابُ هذا العمل
ولا يتطلّب الأمر الكثير من التفكير والتحقيق لمعرفة المُجرم الحقيقي أو العقل المُدبِّر للجريمة في الفيلم الذي أخرجه الأميركي ريان جونسون، وهذا الأخير يبدو مُقتَفِيًا أثر ألفريد هِتشكوك في سينماه، حيث نعرف الفاعل أو نَعلَمُ ماذا سيحدث في النهاية: لكن المُتعة على الطريقة الهِتشكوكيّة لا تأتي من معرفة النهايات بل من الأحداث المالئة للمساحة الزمنية التي تسبقها والإثارة تنبع من كيفية وقوعها. مثل الحياة تمامًا، النهاية معروفة: الموت، لكن المرء لا يعيش منتظرًا هذه النهاية، بل يُحاول أن يصنَع معنى لِمَا يَسبِقُها وأن يستمتع بالطريق قبل الوصول إلى المحطّة الأخيرة. ويمكن القول إنّ الفيلم كان على اسم نوڤيلا للروائي الكولومبي الراحل چابرييل چارسيا ماركيز “قصّة موت مُعلَن” لكن فيها قليلٌ من الحقيقة فيما يَخُصّ هذا الموت الذي يتم الإعلان عنه وننتظر أن نكون شهودًا عليه.
أثر “شقلبة الزمن”
جونسون الذي أخرج ثلاث حلقات من بريكنچ باد، أشهَرُها Ozymandias وأمتَعُها Fly، يبدو أنّه فهم المسار الهِتشكوكي وسار عليه، لكن ذلك لم يمنعه من الانحراف عنه. وهو انحرافٌ إيجابيٌ نستمتع به حين يتلاعَب بنا بواسطة تقنيته لسرد الأحداث من زوايا مختلفة وممارسة ما يمكن تسميته بـ”شقلبة الزمن” في السرد، وقد رأيناه من قبل يتّبع أسلوبًا مشابهًا في العمل الخيالي العلمي الذي كتبه وأخرجه وأبدعه قبل أكثر من 10 سنوات صانع الحلقة حيث تَختَلِط فيه أنساب الزمن، فلا نعرف أصل الماضي ولا فصل الحاضر، وكل مرحلة زمنيّة تُولَد من رحم الأخرى وتتلاعب فيها في حلقةٍ مفرغة.
نتيجةً لما سبق، نشكّ بالشخص الخطأ ونتّهمه -وهُنا مجددًا الروح الهيتشكوكية حاضرة- وكل مرّة يُخامِرُنا شكٌّ بشخصٍ تشيرُ الظروف والمُعطيَات إلى أنّه صاحب المصلحة في الجريمة، لكن مع ذلك، حتى ونحنُ نُوجّه أصابع الاتهام لأكثر من أحد، في داخلنا شعورٌ قويٌ على تخوم اليقين، بأنّ المجرم/الفاعل هو نفسه ذلك الظاهر والواضح على نحوٍ فاضح. وفي النهاية، وكما يُعلن المحقّق بنوا بلانك (دانييل كريچ): لا ألغاز أو أحاجي في باطِن “البصل الزجاجي” وليس ثمّة شيءٌ معقّد في العُمق كما يظهر للوهلة الأولى.
البصل الزجاجي.. أم الإنساني؟
مع ذلك، ثمّة الكثير من المفاجآت المكتوبة والمُنفّذة بعناية، والتي لا تتمركَز حول هُويّة الشخص الذي يقف وراء الأشياء التي تحدث أو “قصّة الموت المُعلَن”، بل تتوزّع على مجموع الشخوص ومجمل الأحداث؛ فنرى على مدار 139 دقيقة مفاجآت حول مختلف الشخصيات.
وهُنا لا يبدو مشروع البصل الزجاجي هو الأكثر أهمية، بل مشروع “البصل الإنساني” -إن جازت التسمية- حيثُ أبطال العمل مجموعةٌ من البصل يتمّ تقشيرُ كل بَصلةٍ منها بسكين تحرّيات المحقّق الخاص بنوا بلانك، الذي يتم شحذه على حجر الحقائق الصادمة، فتتكشّف طبقاتٌ مختلفة بعد عملية التقشير وتبرز الرائحة الحقيقية القويّة التي يُحاول كل واحدٍ من الشخوص إخفائها بمضغ علكة المظاهر الكاذبة والمواقف المُصطَنَعَة، لكنّها تفوح في وجه الآخرين وأمام نفسه. وهذا التقشير يُسبّب إسالة بعض الدموع وهي دموع حزنٍ ممتزجٍ بضحكٍ على الذات وجنونٍ هستيري بوصفه أفضل الردود على جنون الواقع وأولئك الذين يتحكّمون به.
عبر التقشير للبصل الإنساني، نكتشف بأنّ المجرم ليس واحدًا، بل الجميع. كل واحدٍ من هذه النخبة، يقترف جرائم بحقّ الآخرين ونفسه، من خلال ممارسة الكذب والنفاق وانتهاج الانتهازية وعيش حياة مزدوجة. وإن كانت تحقيقات بلانك تكشف عن شيءٍ مهم، فهو أنّ الناس تقول ما لا تَفعَل وتُظهِر خلاف ما تُبطِن، وليس أيّ أحد من الناس، بل تلك النخبة، المتنوّعة بين اليمين واليسار، بين ذلك “الناشط المناصر للرجال” الذي يفعل كل ما يُخلُّ بالرجولة لينال ما يريد، ويعرض نفسه للمجتمع الذي يتفرّج عليه كـ”ذكر ألفا”، بينما في الواقع وبالرغم من ضخامة بُنيته وقوّته الجسدية لا يزال ذكرًا غير ناضج ولا يتمتّع بأدنى حِسٍ من المسؤولية، ويبدو أقرب لطفلٍ تتحكّم به أمّه وحبيبته، وبين حاكمة ولاية كونيتيكت، يساريّة الميول، التي تُوافق على تمرير كل ما تَقِف ضدّه، وتَستغلّ حاجة مؤيّديها لتغيير العالم للوصول لما تُريد، ولا تُغيّر أي شيء حقًا ممّا تريد قاعدتها الشعبية من “اليساريين” تغييره!
رأسماليو كوارث بأقنعة يسارية وليبرالية
وعلى سيرة تغيير العالم، يُذكّر بعض المجتمعين على الجزيرة في هذه القصّة المتخيّلة، بالناشطين أصحاب الخطابات الثورية في جزيرة واقعنا المُعاش -أو فيما تبقّى من هذا الواقع- حيث يعيش هؤلاء على الدعوة إلى تغيير العالم وشعارات الثورة على فساده وحتميّة إصلاحه، لكن تغيير العالم ليس من مصلحتهم؛ فبمجرّد حدوث ذلك، ستنتهي صلاحية خطاباتهم أو عليهم أن يخلقوا أزمات جديدة لكي لا تبور تجارتهم. وليس أمرًا عشوائيًا أنّ هذه النُخبة المُجتَمِعة في قصر مايلز، يسمّيها هذا الأخير بـ”المُزَعزِعين” أو “مُثيري الاضطرابات”! إنّهم “رأسماليو كوارث”، بعضهم صريحٌ بذلك، وآخرون يرتدون أقنعةً ليبرالية ويسارية.. ولامُبالية متّبِعَة لمذهب اللذّة.
مع ذلك يتم تقديم نقيضٍ لدعاة تغيير العالم المُزيّفين، من خلال شخصية التوأم هيلين وآندي براند، وتحديدًا هيلين. ويبدو في ذلك سائرًا على نهجٍ “صائب سياسيًا”، متوقّعٌ من عملٍ يُوزَّع عبر نتفليكس ويُعرض عليها؛ فالفتاة السوداء هيلين، “الناشطة الحقيقية” و”الثورية الصادقة” هي بطلة العمل في النهاية، لا المُحقّق بنوا بلانك، الذي يبدو 2أقرب لمساعدٍ لها أو مرشدٍ لطريقها أو “الراعي الصالح” كما جاء في إنجيل يوحنا.
بين “البصل الزجاجي” و”لا تنظروا إلى الأعلى”
إنّ “البصل الزجاجي”، يذكّر بفيلمٍ آخر صدر في أواخر عام 2021، وقد ذُكر في مُقدّمة هذا المقال، وهو “لا تنظُروا إلى الأعلى“. وبالرغم من الاختلاف الجوهري بين عمل جريمة وغموض يبدو مزيجًا من روايات أچاثا كريستي وسينما هِتشكوك، وبين عمل كوميديا سوداء ونقد سياسي ساخر، أجواؤه قيامية، حيث اقترب للناس حِسابُهُم وهم في غفلةٍ مُعرِضون! لكنّهما يلتقيان في نقد -ونقض- “مُجتمع الفُرجَة” وتَعرِيَة نُخَبِه وإنذار أفراده بأنّ هُناك خطأً كامنًا وخطرًا داهمًا، وبأن على الناس أن يكفّوا عن التحديق في ما يستعبدهم والمسارعة برفع رؤوسهم للنظر إلى أعلى، إن كان ثمّة أمل، فنحنُ في هذا “الواقع الذي يُخفي عدم وجود واقع”، وكما يقول جان بودريار3: فقدنا نعمة التعالي وما عُدنا قادرين على تصوّر عالمٍ من نوعٍ آخر!
لكنّي لو خُيّرت بين الاثنين، بدون تردُّد سأختار “البصل الزجاجي”؛ فهو يتجاوز نفسه كفيلم غموض وجريمة أحداثه مُمتعة وفيه مقدارٌ متوازنٌ من الكوميديا المرسومة بخفّة ظل، ليكشف عن هشاشة الأيديولوجيا وتهافت الدعاوى الكبرى ودجل “المُحسنين الكبار”، دون أن يكونَ مباشرًا كما كان “لا تنظُروا إلى الأعلى”، وهذا الأخير وإن كان قد جَمَعَ صُنّاعُه زُبدة المُمثّلين، إلّا أنّ معظمهم بدوا وكأنّهم في مكانهم غير الصحيح، وربما كان بالإمكان الاستعانة بوجوه جديدة أو أقل شهرة، وكان العمل ليظهر بنفس المستوى أو حتّى أفضل. لكنها وجوهٌ مثالية للتسويق لعملٍ ربما ما كانت ستكون نسبة مشاهدته عالية لو كان طاقمه أقلّ شهرة وحدّة سُطوعِ نجومهم أخف. وهي مفارقة أنّنا حتّى عندما شاهدنا فيلمًا يُحذّر من عواقب عدم النظر للسماء ولما هو أعلى منّا ويتجاوزنا، ما جذب الكثير منّا إليه الوجوه الجميلة والأسماء الكبيرة.. لا ما وراء ذلك!
أمّا هذا العمل، فيقدّم طاقم تمثيل أفراده ليسوا أقلّ شأنًا من ناحية رصيدهم الفنّي وجودة آدائهم وشهرة أسمائهم، مع إفساح المجال لوجوهٍ جديدة. ويبدو كل واحدٍ من هذا الطاقم متواجدًا في مكانه المناسب ومُتموضعًا في موقعه المثالي حيث يجب أن يكون. فنرى دانييل كريچ بروحٍ جديدة، قافزًا من عباءة العميل 007 ومتمرّدًا على الأدوار الجديّة، ليقدّم أداءً كوميديًا أصيلًا، لا مكان فيه للاصطناع والإجبار ليبدو مضحكًا أمام من لم يعتادوه كوميديًا.
فيما يُثبت ديڤ باتيستا مجددًا، أنّه ومن بين كل المُصارعين المحترفين الذين اتّجهوا للتمثيل، هو الأفضل؛ إذ يُفلِحُ في مزج المُتناقِضات مع بعضها: قامةٌ طويلةٌ وبنيةٌ ضخمةٌ تليق بشخصٍ يَصرَع خُصومه بأريحيّة، مع قلبٍ طفوليٍ وجوهرٍ هو نقيض المظهر وشخصيّة لا تُخيفُك بل ترتاحُ لها! كذلك تتألّق كيت هيدسون، صاحبة الغيبات الكبرى عن السينما، في دور مُصمّمة الأزياء و”العارِضة” السابقة، اللامُبالية بأيّ شيء سوا متعتها ولذّتها، أمّا كاثرين هان، فيبدو دورُ السياسيّة ذات الخلفية اليسارية مُفصّلًا على مقاس قدراتها تمامًا.
في النهاية، فإنّ هذا العمل الذي يحمل عنوان أغنية لفرقة البيتلز، ليسَ هو الأكثر عُمقًا أو تعقيدًا وتركيبًا من بين أعمال الغموض والجريمة، لكنّه بلا شك يَنجَحُ في فنّ صناعة الطبقات -إن جازت التسمية-… طبقاتٌ من القصص داخل القصص، والحبكات في قلب الحبكات، وطبقات مفاجآت فوق مفاجآت. ومجدّدًا، هو يُبدِعُ في تجاوز نفسه، ويَتعالى على ذاته، ليَخلِق أبعد من الجريمة والغموض، ويقدّم لنا خبّاز طبقاته ريان جونسون ما يُشبه نسخةً حيةً من لعبة الغموض والجريمة الشهيرة “كلودو” (Cluedo)، نحنُ أحد المشاركين فيها بطريقة أو بأخرى. وكم كان سيكون أجمل وأمتَع لو كانت هناك نُسخة تفاعُلية منه على غرار “بلاك ميرور: باندرسناتش”، حيث نحنُ لاعبون رئيسون بالشخصيات، مُتحكّمون بمصيرها ومُساهِمون بتغيير مجرى القصّة/القصص وبتقشير الطبقات.. وفضح التناقضات.
مصادر:
- العنف: تأملات في وجوهه الستّة – سلاڤوي جيجيك، ترجمة فاضل جتكر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
- إنجيل متى 10:11,15، الكتاب المقدّس: كتاب الحياة ترجمة تفسيرية.
- المصطنع والاصطناع – جان بودريار، ترجمة جوزيف عبد الله، المنظّمة العربية للترجمة.