هشاشة الخطاب الأخلاقوي أو: كيف تَعلَّمت السُلطة أن تتوقّف عن القلق وتُحب الأخلاق

مشكلة “الخطاب الأخلاقوي” الرئيسية، تكمن في حقيقة أنه “مجرّد خطاب” في عالمٍ لا يقيم وزنًا للخطابات ولا يهتمّ إلا بتلك المدعومة بالقوّة. وإن اهتمّ بها فيكون اهتمامًا لغايات الاستغلال الهادف إلى تدعيم القوّة ولا شيء غيرها؛ فهذا الخطاب دائمًا عُرضة للاستغلال، ستستغلّه السُلطة لتعزيز نظام الردع والهيمنة، وستقول -مثلًا- لصاحب/حامل هذا الخطاب: “ليلًا ونهارًا تهاجم فسادنا وإهمالنا وتعلن عبر كل منصّةٍ للتواصل سخطك وغضبك على الوضع القائم، وتشكي من عدم اهتمامنا بأرواح الناس وصحّتهم وسلامتهم.. لك ذلك، سنهتم، سنغيّر، سنُصحّح.. سنعطيك مزيدًا من القيود على الحريات لكبح جماح الفساد، وسنحميك بمضاعفة الإجراءات الأمنية ومراقبتك ومعاقبتك.. لمصلحتك!”، إذ ليس في جعبة أيّ سُلطة إلا الحلول الأمنية لمواجهة -أو مفاقمة- أيّ أزمة أو كارثة أو تهديد.

كذلك، سيستغل رأس المال هذا الخطاب بما يعود عليه بالمزيد والمزيد من الربح والسيطرة؛ فهو لا يأبه لأيّ خطاب، خاصةً ذلك القائم على أرضية أخلاقية. وإن كان رأس المال بحسب عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي جان بودريار، يحتاج هذا الخطاب وتلك الأخلاق لخدمته، حيث يقول في كتابه المصطنع والاصطناع: “لا يستطيع رأس المال وهو عديم الأخلاق والذمّة، أن يمارس دوره إلّا من خلال بُنية تحتية أخلاقية، ومن يُجدّد هذه الأخلاق العامة بالسخط والتشهير… إلخ، يعمل عفويًا لصالح رأس المال”.

وفي عالمٍ يعجّ بالخطابات، سيجد رأس المال في الخطاب الأخلاقوي فرصةً للتنويع وتغيير طعم فم المستهلِك للخطابات. سيراها سلعةً يمكن بيعها لأنّها نادرة في “عصرٍ لا أخلاقي”، كما حدث في حلقة Fifteen Million Merits من الموسم الأول لمسلسل Black Mirror، حينَ ألقى البطل “بينغهام” خطابًا أخلاقويًا مُلتَهِبًا بالرفض والاعتراض والحماسة الثورية، أمام لجنة تحكيم برنامجٍ اسمه Hot Shot، وهو نسخة عن برامج المواهب مثل Arabs Got Talent، لكن الفرق أنّ المواهب فيه أكثر تنوعًا، حيث يمكن للمرء إن كان يملك المهارات اللازمة أن يُصبح نجمًا في أفلام البورنو!

وبعكس المتوقّع من برنامجٍ ترفيهيٍ، يروق الخطاب للجنة ويؤثّر بها، وعوضًا عن أن يأمُر رئيسها بإبعاد صاحب الخطاب الأخلاقوي الثوري الراديكالي هذا، يمتدحه ويقول له إنّ هذا ما نفتقده اليوم وما يحتاجه الناس.. الأصالة! ويتم تسليع هذا “الخطاب الأصيل”، ويحصل صاحبه على وظيفة إلقاء خطاباتٍ أصيلةٍ مشبّعةٍ بأقصى حمولةٍ راديكاليةٍ غاضبةٍ وساخطةٍ وبنفس الروح الحماسية المتّقدة في برنامجٍ مخصّص له سيحظى بنسبة مشاهداتٍ عالية. هذا الخطاب بكل أخلاقيته وجذريّته و”أصالته” ينقصه عنصرٌ جوهري: “الغضب الحقيقي” الذي يُعرّفه الفيلسوف الألماني من أصل كوري جنوبي بيونچ-شول هان في كتابه مجتمع الاحتراق النفسي، بأنّه “القدرة على قطع حالة روتينية قائمة وإحلال حالة أخرى محلّها” ويرى شول هان، أن الوضع اليوم يسفر عن المزيد والمزيد من الإزعاج والضجيج، وتلخّصه عبارة “عليك أن تُقدّم شكوى”، ما يؤكّد غياب القدرة على إحداث تغييرٍ حاسم.

يبدو كل شيءٍ في هذه الحلقة، كما المسلسل وكما العالم اليوم، غَارِقًا في العدميّة “عدميّة الشفافية” -كما يسمّيها بودريار- حيث يدخل الناس أفواجًا في دائرة اللامبالاة، ولا يعود للخطاب الأخلاقوي وللأخلاق نفسها أي قيمة، إلّا تلك القيمة الترفيهية الاستهلاكية، فيتهافت الناس على هذا الخطاب أو على “تسوّقه”.

ولن يشكّل هذا التهافُت أيّ تهديدٍ للسُلطة، بل سيُعزّز نظام ردعها وهيمنتها؛ فالناس سيتابعون الخطاب الأخلاقوي، سيتعاطونه ويُدمنونه، لكن بوصفه وسيلة ترفيه وتفريغ وتصريف غضب، وكطريقة لجلب النشوة، كشيء يشبه انتشاء الاستمناء على البورنو، وهو ليس انتشاءً حقيقيًا في النهاية؛ إذ لا يُغني عن الممارسة الجنسية الفعلية ولا يصل بصاحبه للإشباع، كما لا تُغني الخطابات الأخلاقوية مهما كانت ساخطة ورافضة، عن فعل شيءٍ حقيقيٍ وفعّال ومُشبِع في الواقع الآخذ بالتلاشي لصالح عالمٍ “فوق-واقعي” هو العالم التكنولوجي الافتراضي الذي نعيش به اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى والذي تُرسّخ دعائمه شركات التقنية الكُبرى والميديا المُتلاعب بها من قبل رأس المال الذي يبدو أنه دائمًا أذكى من الذين يظنّون أنّهم يحاربونه ويقاومونه.