
من بين كل الأعمال السينمائية التي أُنتِجَت حول البطل الخارق من عالم القصص المصوّرة الأميركية “DC” الرجل الوطواط -حتّى الآن-، تبدو ثُلاثية فارس الظلام للبريطاني الأميركي كريستوفر نولان، الأفضل، من ناحية إخراجها لصاحب العباءة السوداء من عباءة القصص المُصوّرة وإتيانها بنسخة واقعية وحقيقية له، ليس فيها أيّ مكانٍ لما هو خيالي وسحري، إلّا سحر ثروة بروس واين الذي ليس خياليًا وما أكثر أشباهه في الواقع، مع فارقٍ جوهري: أنّهم ليسوا فُرسانًا ولا يمتّون لأخلاق الفروسية بأيّ صلة.
إنّ ابتعاد فارس ظلام نولان عن القصص المصوّرة، ليس بالضرورة شيئًا إيجابيًا لمُحبّي هذه القصص، الذين يُفضّلون ترجمة ما قرأوه وتخيّلوه في أذهانهم وشاهدوا منه أفلام/مسلسلات رسوم متحرّكة إلى صورٍ حقيقية نابضة بالحركة وآخر شروطها “الواقعية”، وأفضل من قام بذلك هو زاك سنايدر في المراقبون (2009) وحتى في باتمان ضدّ سوبرمان (2016). لكن يبدو أنّ ذلك كان آخر همّوم نولان وأخيه جوناثان الذي كتب معه سيناريو فارس الظلام (2008) ونهوض فارس الظلام (2012)، وكان يتطلّع آل نولان إلى صورةٍ أكبر من مجرّد صنع نسخة واقعية عن قصّة/قصص مصوّرة، وإلى مشهدٍ أكثر تعقيدًا، ليس باتمان هو مِحوَرُه.. بل أعداؤه!
وبما أنّ الحديث عن الأعداء في هذه الثُلاثية، سيقفزُ إلى الذهن على الفور أكثرهم جاذبية -وأكثر أعداء الرجل الوطواط ربما يفوقونه جاذبية-: جوكر الراحل هيث ليدجر، أحد العوامل الرئيسَة في جعل باتمان نولان عصيًا على النسيان حتّى بعد مرور قرابة 15 عامًا على ثاني أفلام الثُلاثية والعمل السينمائي قبل الأخير لليدجر. وهي مُفارَقَة أنّ حُبّنا لفيلمٍ حول باتمان، مَردُّه إلى جاذبية نقيضِه.. وكما قال النقيض للبطل: “أنتَ تُكمّلُني!” الحديث عن الجوكر آتٍ، لكن لنستهلّ المشوار بأوّل الأعداء.
المعركة الأولى ضد مشروع الاستئصال الأصولي
في البدء وقبل أن يُصبحَ الرجل الوطواط، يُواجه بروس واين حركة أصولية راديكالية (اتّحاد الظلال أو عُصبة الظلال) كان جزءًا منها وتدرّب على يد شيخها -إن جاز الوصف- “رأس الغول” مُعلّمه ومرشده وعدوُّه لاحقًا. هذه الحركة ليست جديدة أو تشكّلت كردٍّ على “فساد العالم المُعاصر”، بل موجودة منذ آلاف السنين كقوّةٍ ضد الفساد البشري، ومن أعمالها: تدمير روما وشحن سفن تجارية بفئران مصابة بالطاعون وإحراق لندن كليًا، كما يروي رأس الغول. وفي كل مرّة تبلغ أيّ حضارة قمة التدهور وتصل لهرم الانحطاط تأتي هذه العُصبة لتقويم الاعوجاج واستعادة التوازن.
تُسافر بنا عُصبة الظلال عبر الزمن، إلى القرن الحادي عشر الميلادي تحديدًا، لتُذكّرنا بـ“جماعة/طائفة الحشاشين” التي تتقاسَم معها أوجه تشابهٍ كثيرة؛ فجنودها راديكاليون بلا رحمة، يغتالون بلا هوداة، وهُم “فِدائيون” لا يهابون الموت ويجدون الحياة الحقّة فيه ويُقبلون على الفناء ويحتضنونه بانتشاء وكأنّهم تحت تأثير الحشيش! ويبدو رأس الغول وكأنّه مستوحى من قائد الحشاشين حسن الصبّاح أو شيخ الجبل، وربما المعبد الذي أحرقه واين هو نسخة مصغّرة عن قلعة “ألموت”!

وعودةً إلى عصرنا الحالي، تبدو العُصبة أقرب إلى الحركات الأصولية الإسلامية المُسلّحة أو “الجهاديين”، إذا ما أُخِذَت الفترة التي أُنتجَ فيها الفيلم بعين الاعتبار، حيث كان الصراع مُحتَدِمًا بين الغرب وهذه القوى، ولم يكن قد مضى الكثير على الهجوم على البرجين التوأمين لمركز التجارة العالمي في نيويورك. هذا التشابُه بين الطرفين يَتمظَهَر في “النشوء والاستناد إلى سلسلة من البيانات الدُغمائية القاطعة”، بتعبير المنظّر الماركسي اليهودي الألماني وأحد أعضاء مدرسة فرانكفورت فرانز ليوبولد نويمان، ونشاط كلا الطرفين -خاصة الأنساق المُسلّحة من الحركات الأصولية- بالفوضى واتخاذهما العُنف كوسيلة للوصول للغاية النهائية.
وجه تشابهٍ آخر هو رفض تحكيم “القوانين الوضعية”، وإن جاء الوصف بشكلٍ مختلف على لسان رأس الغول الذي استنكر رفض واين لمحاربة فساد مدينة چوثام بتدميرها وسخر من الاحتكام لقوانينها، بتساؤلٍ استنكاري: “ما البديل؟ هل هو قانون البيروقراطيات الفاسدة وقوانين المجتمع التي يحتقرها المجرمون ويتلاعبون بها كما يشاءون؟!” ألّا يبدو التشابه هُنا قويًا ومقصودًا؟!

كذلك تتلاقى عُصبة الظلال مع النازية، من ناحية استعمالها الإرهاب لإقناع الناس، وانطوائها على بعض “المعتقدات السحرية” مثل عبادة القائد، بحسب نظرة نويمان لـ“الاشتراكية القومية” في كتابه “البهيموت1. ووجه التشابه الأخير هذا ليس حِكرًا على النازية؛ إذْ تُشاركُها بِه الجماعات الأصولية الراديكالية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، إلى جانب دولٍ يفترض أنّ أيديولوجيتها ونهجها نقيض الرايخ الثالث، لكنّها كادت أن تكون توأمَهُ من ناحية عبادة القائد واستعمالها الإرهاب تحت مُسمّياتٍ ناعمة.
يصل واين وعُصبة الظلال إلى مفترق طرق، حين تقرّر العُصبة أن چوثام قد حقّ عليها القول، لأنّ مُترَفيها فسقوا فيها واستوجب عقابها بـ”استئصالها” بتعبير محمد بن عبد الرحمن الإيجي الشيرازي في تفسيره للآية السادسة عشرة من “سورة بني إسرائيل” في القرآن الكريم. والاستئصال يَعني الاجتثاث الكامل من الجذور بدون استثناء، فحتّى “غير المُترِفين” سينالُهُم الاستئصال؛ لأنّهم “رضوا بفعل المُترَفين وسكتوا عن النهي فاستحقّوا العذاب”، كما جاء في حاشية محمّد بن عبد الله الغَزنوي على تفسير الآية في “جامع البيان في تفسير القرآن”2. ويُجادل واين بأنّ هناك الكثير من غير المُترَفين وأهل الصلاح في مدينته، لكن ذلك لا يعني شيئًا لـ”عدالة عُصبة الظلال”، الجميع سيُباد؛ فالعقاب عادل والعذاب شامل وقد استحقّه هذا المجتمع “الجاهلي” بنظرها،إذا ما استحضرنا وصف سيّد قطب الذي يبدو استعمالُه في هذا السياق مَنطقيًا ومع التشابه الكبير بين خطاب هذه العُصبة والبيانات الدُغمائية القاطعة للجماعات الأصولية ومُنظّريها.
يرفض واين تنفيذ القصاص بيديه ويَستنكِر أن يكون مُطبّقًا لحُكم إعدام أيّ إنسان عدا عن إبادة مدينته، وهي -أيّ الإبادة- وظيفة كانت تقوم بها العُصبة جيلًا وراء جيل، وذلك من ثوابتها وقد “كَفَرَ” واين بها! يَنقلِب هذا الأخير على مُعلّمه ومُرشِدِه ويحرق المعبد، ظانًا أنّ كل شيءٍ قد انتهى، ويذهب ليبدأ حياته من جديد في مدينته كمنقذٍ ومخلّصٍ لها تحت قناع الرجل الوطواط.. لكنّها بداية النهاية التي مُقدّرٌ لها أن تَحلّ لا محال! إذا يعود رأس الغول ويعود بروس واين لمُقاتلته ومنعه من جعل چوثام لـ”أهلها الفاسدين”.. حصيرًا، ولاستئصال سمومها.. بسمٍ مُضَاد لا يُبقي ولا يَذَر. ينجح التلميذ بإحباط مخطّط مُعلّمه، ينقذ مدينته.. ولا يقتُل هذا “الأب”، لكنّه لا ينقذه.. لكنّ ذلك لا يعني أنّ السلام قد حلّ!
ليسَ لدى المُهرّج ما يخسره.. ولا للبطل أيُّ سلاحٍ ضد “عميل الفوضى”
في منتصف الطريق، يُواجه واين قوّة شريرة جديدة، لكنّها على النقيض من عُصبة الظلال: لا تعنيها تطبيق أيّ قوانين أو أحكام أو تشريعات ولا تأبه بأيّ عدالة، ولا تستند إلى أيّ بياناتٍ دُغمائية قاطعة ما خلا بيان العدميّة والجنون. وتلك العدمية ليست شيئًا شاذًا، بل هي تعبيرٌ أصيل عن روح العصر؛ فالجوكر -الذي لا نعرف شيئًا عن أصله وفصله سوا سرديّاتٍ متناقضة جاءت على لسانه- ابن زمانه بالنهاية! هو فقط تجرّأ على إعلان عدم وجود أي قيمة ومعنى، عبر تأكيده بأنّه لا يملك خطّة، والخُطّة هُنا هي بمثابة المرجعية والترياق لسمّ العدميّة والصلابة في مواجهة الميوعة والوضوح القاطِع في مواجهة الغبش الخادِع.

أمّا جنونه فهو مُجرّد جنونٍ مُضَادٍ لجنون الوضع القائم في چوثام المُمثّل في فساد رجال أعمالها وإرهاب عصاباتها ونفاق مؤسّساتها الرسميّة، وهو وإن سعى لإغراق هذه المدينة بالفوضى وخراب العمران، فالظُلم السائد فيها كان أصلًا مُؤذِنًا بخراب عمرانها وكل ما فعله “عميل الفوضى” أنّه استثمر ذلك لصالح عدمّية تخريبه الفوضوي! والظلم هُنا بالمعنى الأعمّ، وفي هذا الشأن يقول ابن خلدون في الفصل الثالث والأربعين من مُقدّمته3:
“ولا تَحسبَنّ الظُلم إنّما هو أخذ المال أو المُلْكِ من يد مالكه من غير عوضٍ ولا سبب كما هو المشهور، بل الظُلم أعمُّ من ذلك. وكُلُّ من أَخذَ مُلكَ أحدٍ أو غصبَهُ في عمله أو طالبَهُ بغير حقٍّ أو فَرضَ عليه حقاً لم يَفرِضهُ الشرع فقد ظَلَمَهُ؛ فجُباة الأموال بغير حقهّا ظَلَمَة والمُعتَدون عليها ظَلَمَةٌ والمُنتَهِبون لها ظَلَمَةٌ والمانعون لحقوق الناس ظَلَمَةٌ وغُصَّاب الأملاك على العموم ظَلَمَةٌ، ووبالُ ذلك كُلِّه عائدٌ على الدولة بخراب العُمران الذي هو مَادَّتُها لإذهابه الآمال من أَهلِه”.
وتوصيف ابن خلدون هذا، ينطبق بدرجةٍ كبيرةٍ على ظُلمِ چوثام، وفي نسخة أخرى من الجوكر، تنالُ هذه المدينة المجنونة البطل الذي تستحقّه!
ضِدّ الجوكر تبدو كل القوى والأسلحة بلا جدوى؛ فهو كممثّلٍ لقوّةٍ عدميةٍ ومجنونة، لا يسعى للثورة بمعناها التقليدي أو الرومانسي، فلا يعنيه تغيير الأوضاع أو قَلبُها والتمرُّد على السُلطة.. هو رَجلٌ يريد مشاهدة العالم مُحتَرِقًا، ولا تملك القوة المُضَادة له أي شيءٍ حقيقي وذي فعالية ضِدّه! وفي المواجهة الأخيرة بين البطل ونقيضه، لا ينتصر صحاب المبادئ غير القابل للإفساد على المُهرّج العَدَمي، إذْ ينتهي الفصل الثاني من الثلاثية، بفوز “عميل الفوضى”، حين تُفلِحُ ألاعيبه في صيد عفاريت چوثام (باتمان، هارڤي دينيت) وإسقاط واين في ظلام الهزيمة واليأس!

وفي آخر الطريق أو بداية آخرِه، يبدو واين مُثقلًا بحِملِ هزيمته النفسية والمعنوية على يدّ الجوكر وروحهُ تغذو محطّمة، بعد اضطرار فارس الظلام لتحمّل وزر جرائم “فارس چوثام الأبيض” هارڤي دينيت، الذي غدا واحدًا من المجرمين، بعد أن نقل إليه المُهرّج جرثومة الفوضى وأصابه بفيروس الجنون وجعله يشاهد نفسه يتحوّل إلى “الشرير” الكامن في “الهُوَ” الذي كان بطل “الأنا” يُحاربه. يدفن الرجل الوطواط وحليفه جيمس جوردون الحقيقة والتاريخ الحقيقي لإنقاذ الرمز؛ فالتاريخ في جوهره العميق ليس أكثر قاطرة لرأسمال رمزي ومادي وقوة غير منظورة لتحريك الوعي الجمعي، كما قال الكاتب السوري نادر قريط ذات مرّة.

العودة الثانية للعدوّ الأول من أجل يوم الحساب
يُحاوِل واين أن يَنهَض، يَسقُط مرةً أُخرى، لكن هذه المرة في ظلام الماضي الذي يعود على هيئةٍ أكثر جنونًا وعنفًا وفوضويةً! عُصبة الظلال تُبعثُ من جديد كطائر الفينيق، للإيذان باقتراب يوم حساب چوثام، حاملةً الأيديولوجيا المتطرّفة ذاتها، والغاية نفسها مع بضعة تحديثات: إسقاط النظام في چوثام -الآيل للسقوط مسبقًا- وتدميرها وإبادة أهلها وقتل فارسِها، وهي غايةٌ ساميةٌ -بالنسبة للعُصبة- من أجل تحقّقها تُبرّر أي وسيلة، ووسيلة الاستئصال هذه المرّة ليست سمًا قاتلًا بل قُنبلةً نووية!
وبعكس الجوكر يُعلِن ممثّل العُصبة هذه المرّة، الإرهابي و“الشر الضروري” -كما يَصِفُ نفسه- باين أنّه يملك خُطّة، فيؤكّد: “ليس مُهمًا من نحن، المُهِمّ خُطّتنا!”؛ فالأفراد غير مهمّين، الجميع لا قيمة لهم، المهم الخُطّة التي تنشط في الفوضى وتتحقّق في ظلّها ويموت الكل من أجلها، إبادة شاملة وعادلة وعَدَمٌ كاملٌ لا يقبل التنازلات هو جوهر هذه الخطّة التي هي بمقام الأخّ الكبير، الذي لم يكن يومًا موجودًا ككيانٍ فعلي، لكنّه يحكم ويبطش.
المؤمن الصادق والحقبة الجديدة للحضارة الغربية
يأتي باين إلى چوثام ويقيم في أسفل عالمها كشيطان، ينتشر ببطء وينهش جسدها كسرطان! يُعدُّ جيشًا سِريًا لتنفيذ وعد عُصبة الظلال بأن يكون مصير هذه المدينة الفاسدة “الاستئصال” لتبدأ بعده “حقبة جديدة للحضارة الغربية” كما يُعلِن باين الذي يُهاجم بعض مظاهر هذه الحضارة مثل البورصة وملعب كرة القدم الأميركية، ومثلما فعل الجوكر قبله حين اقتحَم حفلًا لأشخاصٍ مُتحضِّرين ومُتمدّنين! وهُنا مجدّدًا لا بُد من استحضار الصراع بين الغرب و”الإرهاب” وكيف أنّ هذا التهديد حتى وإن مرّت عليه فترة غيابٍ وسُبات إلّا أنّه دائمًا جاثمٌ على قلب الغرب ويحضر في هواجسه حتى في غيابه.
ولأنّ العدوان الخارجي الواضح سيَجِد مقاومةً ولن ينجح لوحده في نشر الفوضى، يعمَد باين إلى استخدام خطابٍ ثوري، مُوجّهٍ إلى معذّبي أرض چوثام، يَصبّ من خلال عباراته التحريضية، الوقود على نيران الغضب والحقد الطبقي المتأجِّجة في نفوسهم ليُسرّع قدوم يوم الحساب؛ فيُوهمهم بأنّها فرصتهم لاستعادة مدينتهم وأنّ كلّ ما يجري هو ثورةٌ على الطُغاة المُتسلِّطين، لتصبح السلطة في يد شعب چوثام.
هذا الشعب لا يعني شيئًا لباين ومشروعه، الذي لا قيمة فيه للفرد ولا للجماعة، لكنّه يستخدم ما أسماه إيريك هوڤر في كتابه المؤمن الصادق4 “آلية غرس الاستعداد للقتال والموت”، حيث يُبيّن هوڤر أنّ هذه الآلية “تعمل على تذويب الفرد في المجموعة المُوحّدة المترابطة، بإعطائه نَفْسًا جديدة متخيّلة، تغرس فيه اتّجاهًا إلى احتقار الحاضر وشغفًا بالأشياء القادمة التي سوف تجيء في المستقبل وتشحنُه بالعواطف المُتفجِّرة”. لكن لا أشياء قادمة سوف تجيء إلّا الموت بعد أن تتفجّر چوثام، ولا مستقبل سوى النهاية.

المجيء الثاني للمُخلِّص
يَنهَضُ واين من حُفرة الماضي المُظلِم، ليكون فارس الظلام المُنقِذ، المُخلّص المُنتَظَر الذي يعود مُجددًا وقت القيامة، قيامة چوثام، ليقود أهلها في الملحمة الكبرى والفتنة العُظمى، في الحرب الأخيرة بين مشروع المعنى والنظام والقانون والمرجعية وإحياء النفس البشرية، ضد مشروع العدمية التدميرية المجنونة والفوضى الهدّامة والاستصال وقتل النفس بغير نفس.
إنّها حرب نهاية الكون فعلًا؛ چوثام هي مركز هذا الكون (وهُنا لا يُمكِن للمرء أن ينسى مشهد المعركة بين رجال أمن چوثام وجيش عُصبة باين ومرور باتمان فوقهم ليُعطي رجال الأمن دفعة معنويةً ويبثّ في نفوسهم العزيمة وفي قلوب عدوّهم الرُعب. ولا يمكن أيضًا إغفال دور موسيقى هانز زيمر في إضفاء الطابع المَلحَميّ وتعزيز الأجواء القيامية)، أمّا واين فهو ليس إلّا المسيح الذي سيَفدي مدينته بدمه (أو دم أسطورة باتمان)، بما تُمثّله من رمزيات وجماليات.

ومع نهاية هذه الحرب الكونية وختام هذا المقال، يعود المرء للتساؤل بعد مُضيّ أكثر من 10 أعوام على آخر أجزاء ثُلاثية فارس الظلام: هل كان الفارس الحقيقي بروس واين/باتمان فعلًا؟ أم كريستوفر نولان؟ الذي يبدو عبر هذه الثلاثية، مُكافحًا ضد عصره ومنتصرًا للنظام بمعناه الأشمَل ومُحافِظًا على شيءٍ من المعنى. على النقيض تمامًا من مُعاصريه من صنّاع الأفلام الّذين قد أفضّل الكثير منهم عليه (چاسبَر نوي وديڤيد كروننبرچ مثلًا لا حصرًا).
وفي الوقت الذي تَرسو فيه كثيرٌ من الأعمال السينمائية المُعاصرة في ميناء الفوضى والعدمية، ترسو سُفُن ثلاثية فارس الظلام في ميناءٍ آخر، معادٍ بشكلٍ جذري لها وداعمٍ للنظام والمعنى ومساندٍ للقانون، ولهذا السبب يُمكن للبعض بكل سهولة اتهام نولان بأنّه كان يمينيًا ومُحافِظًا جدًا -في الجزء الثالث والأخير تحديدًا- ومُؤيّدًا شرسًا للدولة وللوضع القائم والأمر الواقع وضد “الثورة” و”الثوّار” بالمُطلَق!
ومع جماليات النهايات الملحميّة هذه، إلّا أنّ العودة للواقع تُفسدها؛ فچوثام نالت البطل الذي تستحقّه وأنقذها.. الملياردير بروس واين. ولسوء الحظّ فإنّ صحراء واقعنا ليس فيها أثرياء مثل واين أو حتّى توني ستارك (الرجل الحديدي) من عالم مارڤل، بل أشخاص على شاكلة إيلون ماسك وبيل غيتس ودونالد ترامب وآخرون أكثر سوءًا، منهم “مُؤثّرون” لا نعلم بماذا يؤثّرون، ونَحصُل عليهم كأبطالٍ نستحقّهم بلا شك.
المصادر:
- البهيموت: بنية الاشتراكية القومية (النازية) وممارستها – فرانز ليوبولد نويمان، ترجمة حسني زينة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
- جامع البيان في تفسير القرآن – محمد بن عبد الرحمن الإيجي الشيرازي الشافعي ومعه حاشية محمد بن عبد الله الغَزنوي، تحقيق الدكتور عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية
- مقدّمة ابن خلدون – عبد الرحمن بن خلدون، دار الكتب العلمية
- المؤمن الصادق: أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية – إيريك هوڤر، ترجمة الدكتور غازي بن عبد الرحمن القصيبي، مؤسسة الانتشار العربي، العبيكان، كلمة