
«لقد كان الخوف، الهوى الوحيد في حياتي»
توماس هوبز، من مقدّمة كتاب “لذّة النص” لرولان بارت
«ثمّة عدوى واحدة تنتشر أسرع من الڤيروس، ألا وهي الخوف»
رواية الجحيم – دان براون
لا يحظى أصحاب الخطابات الجنائزية والرؤى القيامية بالنصيب الذي يستحقونه من النقد ويتم حرمانهم من السخرية منهم والاستهزاء بهم، لصالح أنصار نظريات المؤامرة من أمثال ديڤيد آيك وعلياء جاد وغيرهم، مع أنّ الفريقين يحقنان خطاباتهما بنفس المادة القاتلة: الخوف!
لكن الخوف بذاته ليس مشكلة؛ فهو غريزة ضرورية تُزوّد المرء بما يحتاجه من الحذر تجاه “إخوته” البشر، وتحميه من الوقوع في شِراك وفِخاخ الحياة المزروعة في كل أركانها، وتساعده على معرفة أعدائه الذين يحتاج وجودهم أكثر من “أصدقائه” في سبيل البقاء لاعبًا على حلبة صراع الحياة.
الخوف الذي أتحدّث عنه بوصفه مشكلة، هو المُضخّم والمبالغ فيه، ذلك النوع الذي يتحوّل إلى مادةٍ مخدّرةٍ للتفكير والتساؤل ومعطّلةٍ للحسّ النقدي. ويتم الترويج له من قبل تحالف أجهزةٍ يعمل بجد ويكد، لكن لا لحماية الناس ولا خشية فقدان حيواتهم؛ فهو لا يخشى إلّا فقدان شيءٍ واحد.. الهيمنة. وادّعاء حماية الناس وحفظ أرواحهم من المخاطر والتهديدات العظيمة، إحدى وسائل الحفاظ على هذه الهيمنة، أو تعزيزها؛ فهي لا تقلّ ولا تنقص ولا تكتفي بقدرٍ معينٍ أو تصل إلى الإشباع، بل تفيض دومًا وترتقي باستمرار لتصل حدودًا بلا حدود، يمكنها عندها أن تستفيد من أعدائها، فيغدو مقاومها خادمها من حيث لا يشعر.
صاحب الخطاب الجنائزي والرؤيا القيامية، يُشيّع البشرية إلى مثواها الأخير ويُبشّر بابتداء النهاية ودُنوّ القيامة، وقد يفعل ذلك شاهرًا سيف تخصّصه الأكاديمي، ليؤكّد: “المليارات ستموت.. سينقرض البشر.. نحنُ نعيشُ في أسوأ عصورنا، وإن لم نفعل شيئًا سنفقد أحبّاءنا وسيموت الجميع وسينتهي الكون وتقوم القيامة أو نذهب جميعًا للعدم” وفي تأكيده هذا لا ينطق عن الهوى، بل ينهلُ من وحي التخصّص الأكاديمي التي اصطفاه نبيًا له.
وفي كل زمانٍ من أزمنة الحرب والموت، يُسارع صاحبنا مُنتشيًا، إلى نشر نبؤاته وتوزيع بياناته على مختلف المنصّات. وقد دأب على فعل ذلك منذ عصر ما قبل هذه المنصّات؛ ففي كل حربٍ حدثت وكارثةٍ طبيعيةٍ وقعت أو وباءٍ استجد، بَشّر الجنائزي القيامي على الدوام، باقتراب نهاية العالم وبثَّ الرعب في قلوب الناس، فقدّموا تنازلاتٍ تتعلّق بحرياتهم، لكي تتم حمايتهم من هذا الخطر، الذي ظهر مع الوقت أنّه لم يكن مختلفًا عما واجهه أسلافنا الذين كانوا محرومين من الأدوات المعرفية المتقدّمة والتقنيات المتطوّرة لإنسان اليوم.
وإذا أردنا المقارنة، مخاطر اليوم “قد” تبدو صغيرة أمام مخاطر الماضي الكبيرة. لكن يبدو أنّ هناك علاقةً طرديةً بين التقدّم العلمي والتطوّر التقني وتدهور قوى الإنسان “الحديث” وانحطاط عزيمته في مواجهة الكوارث والأزمات، أو أنّ البشر أصبحوا يخافون على بعضهم بجنون، بدافع الحبّ والإخاء والمساواة والمصير المشترك… إلخ، لذلك يُبالغون في ردود فعلهم.
يُمارس الجنائزي القيامي وظيفته بدوامٍ كامل، مدفوعًا بحب الظهور وإثبات مؤهّلاته في مجاله الأكاديمي، أو لتحقيق ذاته ببساطة. أو لأسبابٍ عقائدية، مثل هوسه بأفكار الفناء الحتمي وإيمانه أنّ النهاية قادمة لا ريب فيها والمسألة مسألة وقت، وعند بداية أي أزمة جديدة، يرى أنّها الفرصة المواتية لتكون بداية النهاية.
لكن للأسف، وأقول “للأسف” مُتعمّدًا وصادقًا مُخلصًا.. لا تبدأ هذه النهاية ولا نرى شارة مقدّمة مسلسل الفناء الذي قرأنا عن أحداثه كثيرًا، لكنّنا لم نشاهدها! وإن حدث فناءٌ ما، فهو يستهدف جماعةً بعينها، كما كان -وما زال- يحدث في الإبادات العرقية والدينية والثقافية. وربما تُسبّب الأزمات نهايات، لكنّها ليست كالنهايات السينمائية، بل نهايةٌ للعالم السابق القديم الذي كنّا نعرفه وفناءٌ لنظامه.. كما حدث نتيجةً لهجمات الحادي عشر من أيلول و”الثورات العربية” وإفرازاتها وأزمة فيروس “كوفيد-19” وتبعاتها والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها والحروب الأهلية القائمة هُنا وهُناك.
يُذكّر هذا “النبي الكاذب” المُبشّر بنهاياتٍ لن تأتي، بالشخصيات التي تظهر في الأفلام، وتكون في العادة دينية أو لمجانين وسُكارى ومشرّدين يتمنون نهاية العالم ويريدون إقناع سكّانه بأنّ أمانيهم وقائع ستقعُ قريبًا. ويحمل هؤلاء لافتات عليها عبارات مثل: “النهاية قريبة”، “إنّها النهاية”. أو يتجوّلون وهم يُنذِرون بأنّ كل البشر سيموتون! وثمّة من يُصدّقهم دومًا ليكون مجنونًا مثلهم، ولا يخدم بالنهاية إلّا أولئك الذين يستمدّون -أو يُعزّزون- رزقهم وهيمنتهم بواسطة المجانين.. ولكن بعكس المثل الشعبي، هم ليسوا من طائفة “الهُبل” أبدًا!
*الصورة من مسلسل “مسامير” – الموسم الرابع، الحلقة الثامنة.
** كُتِبَ في 13 كانون الأول 2020.