
خرج بدر الوردي من عُزلتِه الطويلة داخل بُرجه المزروع في قلب الغابة، بعد ستّة أشهرٍ وتسعة أيامٍ قضاها في التأمّل والتدبّر وشحذ الذهن للإتيان بحلولٍ نهضويةٍ سيرفعها في تقريرٍ لـ”مجلس السادة حُرّاس الغابة”. ولحظة فتحه باب البرج، انقضّت عليه أشعة الشمس الساطعة لتفترسَ بصره الضعيف.. وقد كان يكره الشمس والبشر والحياة، وبالرغم من ذلك كان مُحبًا للطبيعة وناشطًا حقوقيًا مدافعًا عن البيئة وحقّها في الحماية من فساد البشر. وليُقاوم نور الشمس الذي كاد أن يغرس سيفه المسلول في صدر شبكيّة عينه، وضع بدر نظارةً ذكيةً تجعلهُ يرى كل شيءٍ حوله جميلًا وشهيًا؛ فمثلًا أصبح يرى بِرَكَ الدم والأشلاء المتناثرة في الغابة أحواضًا من النبيذ الإيطالي وأطباقًا من السوشي الياباني.
وفي الطريق رأى بدر ما أثار غضبه: جثث أطفالٍ ونساءٍ ورجالٍ وحيواناتٍ وطيورٍ تَفتَرِشُ طرقات الغابة، فصاح بأقصى حمولةٍ تستوعبها أحبالُه الصوتية: “لا يجوز ذلك! هذه جريمة، تلك فاشيّة؛ فترَاكُم هذه الجثث يُلوّث البيئة ويُفسِد الجمال الساحر لأمّنا الطبيعة! بسرعة، لتأتي جرّافة، فتجمعها وتُلقيها في أيّ مجمّع نفايات. ثم أين قوات الإذابة بالأسيد؟ ما هذا التراخي والإهمال، سنُحاسبكُم على هذا التقصير!”. لكن فورة غضبِه بدأت تتقلّص حتى انطفأت بنار خَوفِه وعصبيّته انكمشَت حتى اختفَت في قوقعة جُبنِه حين حَدَّث نفسه: “يا بدر، لنَكُن عقلانيين وموضوعيين وليكُن منهجنا علميًا كما اعتدنا! لم يُقصّر السادة حراس الغابة؛ فقد قدّموا خدمةً جليلةً حين تخلّصوا من هؤلاء الرُّعاع ذوي الجينات المُنحطّة الذين كانوا يُشوّهون ملامح الطبيعة ويغتصبون جسد البيئة الطاهر النقيّ. ثم دعنا من الشيطنة ولنَعدِل فهو أقرب للتقوى.. السادة لم يلمسوا أيّ شجرة، بل على العكس كُلّ الأشجار مُثمِرَةٌ كأنّها نهودٌ مُكوّرةٌ جاهزةٌ للقضم”.
عاد بدر إلى بُرجِه، ليَضعَ اللمسات الأخيرة على تقريره الذي جاء في تسعٍ وستين صفحة من القطع الكبير؛ تِسعُ صفحاتٍ يُهاجم فيها أهالي الغابة الّذين وصفهم بقطيعٍ من الخراف الفاسدة الضالة التي كانت تحتاج لذئبٍ حازمٍ شجاع ليُصلِح حالها، وستون صفحةً يَصبّ فيها ثناءهُ على إجراءات السادة حُرّاس الغابة التي كانت قاسيةً قليلًا -مثل إبادة سكّان الغابة- لحماية البيئة والدفاع عن الطبيعة. داعيًا في نهاية التقرير إلى تشجيع الاستثمار في التشجير والتخضير بما يعود بالنفع العظيم على أمّنا الطبيعة التي لا ترحم من لا يرحمها وتكره من لا يُتقنُ ممارسة الحبّ معها.
وحَظِيَ التقرير بالاحتفاء والتقدير، ومكافأةً على رؤيته الرياديّة الثاقبة ودفاعِه المُستميت عن البيئة من شرّ الإنسان، قَرّر مجلس السادة حرّاس الغابة ترقية بدر من إنسانٍ إلى شجرة! وحينَ بلغه نبأ مكافأته، أحسَّ بدر بشعور الولادة من جديد وأعلنَ نفسه أوّل إنسانٍ فائقٍ في تاريخ البشرية؛ فهو منذ الآن شجرة، وسيتَّحِد مع الطبيعة ويَحلّ لاهوت النظام البيئي في ناسوته.
ومرّت السنين وبدر شجرةٌ منتصبةٌ في عمق الغابة، وحقيقة أنّه شجرة لم تمنعه من استكمال تأمّلاته وكتابة مقالات تمتدح الغابة وتُشيد بمكانتها بين الغابات وكيف استطاعت بمواقفها المعتدلة المتوازنة -خارجيًا- أن تستقطب معظم حرّاس الغابات الأخرى إلى صفّها، بما يخدم مصلحة الطبيعة العليا، وكيف تمكّنت بإجراءاتها القاسية المُتطرّفة -داخليًا- من كبح جماح فساد الإنسان والتمهيد لخلقِ إنسانٍ جديدٍ ملتحمٍ مع الطبيعة تمامًا مثل السادة المُبجّلين حُرّاس هذه الغابة التي لولا جهودهم المتفانية لكانت أرضًا يبابًا.
لكن بدر كان يعيش دومًا في حالة إنكارٍ لكافة الحقائق الجَلِيّة، ومن أبرزها حقيقة أنّه مُجرّد شجرة، أي جماد لا أكثر، حتى قبل أن تتم مكافأته بترقيته إلى شجرة؛ إذْ قَرّر مجلس السادة حُرّاس الغابة القيام بمشروعٍ نهضويٍ متمثّلٍ في التخلّص من أشجار الغابة، “فهي مجرّد أشجارٍ سخيفة في نهاية الأمر” -كما جاء في بيان المجلس الذي وُجّه لأعضائه وأصدقائهم في الغابات المُجاورة- والبدء على الفور في تشييد مطعمٍ ضخمٍ مُختصٍ بتقديم وجبات الدجاج المَقلي المُقرمِش لأعضاء المجلس وزوّار الغابة، إلى جانب بناء مصنع عرق مكسورٍ بمياه الغابة المقدّسة وتأسيس شركة سيجارٍ فاخر ملفوفٍ على مؤخّرات أجمل فتيات الغابة اللواتي تمّ استثناؤهنّ من الإبادة، بالإضافة إلى إقامة سلسلة مقاهي تبيع سوائل ألوانها من درجات الُبنّي لكنّها ليست قهوة. وعندما بَلغَ بدر هذا النبأ، فَرِحَ فرحًا طفوليًا ممتزجًا بالهذيان: “طوال حياتي كنت أرى نفسي مشروع شهيد، وهأنذا اليوم فعلًا شهيدٌ في سبيل الطبيعة.. أنا مسيحُ النظام البيئي ومُخلّصه”!
وحين جاء وقت تنفيذ الإبادة الشَجريّة، وبدأ حرّاس الغابة ببتر أعضائه بمناشيرهم المتعطّشة لتقطيع وفرمِ كل شيءٍ حي.. أدرك بدر أنّ شجاعته ليست على مقاس الكلام الذي قاله عن “الشهادة في سبيل الطبيعة”، فأخذ يتوسّل الحرّاس أن لا يبتِروه، لكي يكون مَعلَمًا طبيعيًا يتأمّله روّاد المطعم الذي سيُقام على أنقاض هذه الغابة، أثناء تناولهم وجبات الدجاج المقرمش.. لكنّهم باشروا ببترِه وبعكس الأشجار التي تموت واقفةً ومنتصبةً، مات بدر مُنحَنِيًا على نفس النحو الذي عاش عليه.