سوبرانو في مواجهة أعدائه: انتصار ضخامة الحيوان الأصلي على ضآلة الإنسان العادي

مع الصفحات الأولى من سفر تكوين آل سوبرانو، يبدو توقّع هيمنة أنتوني “توني” الدائمة وانتصاره المتواصل أمرًا سهلًا، وليست هناك الكثير من المفاجآت بخصوص ذلك، بعكس مصائر شخصيات يُفترَض أنّها رئيسة في أعمالٍ أخرى (نِد ستارك في لعبة العروش، مثلًا لا حصرًا). هذا التوقّع السهل مَردُّه ليسَ لحقيقة أنّ رجل المافيا الأميركي ذو الأصول الإيطالية هو البطل وبالتالي سينتصر، والانتصار هذا ليس حتمياً؛ فالبطل مُعرّضٌ للخسارة والنفي والتشريد والهزيمة بجوانبها الجسديّة والمعنويّة/الرمزيّة، أو على الأقل الأبطال الحقيقيين أو من نُريدُهُم أن يكونوا كذلك، الّذين لا تاريخ لَهُم.. لا أبطال تاريخ المُنتَصِرين.

إنّ تَشكُّل هذا التوقُّع بالهيمنة نابعٌ من ضخامة بطل العمل (هو بطلٌ مخالفٌ للعُرف أو بطل مُضَادٌ للبطولة التقليديّة)، وهذه الضخامة يُقصَد بها: تلك الرمزيّة المُمثّلة في سُلطَتِه وبَطشِه بوصفه زعيم عائلة ديميو الإجرامية في شمال نيوجيرسي ومُرعِبَ العائلات الأخرى. والحرفيّة المُمثّلة في بُنيته الجسديّة وقوّته الجسمانيّة. ومن البَدَهي أنّ ضخامة المرء لا تكفَل لَهُ التفوّق على أعدائه، ربّما تفعل ذلك في السجون وبيئات المراقبة والمعاقبة والإخضاع والضبط المُستَنسَخَة عنها بدرجات مُخفّفة مثل المدرسة، وحتى بين العصابات وفي الأحياء المُسيطَر عليها من قبل “البلطجية” أو “الزعران”، وفي هذه الأخيرة، قد ينهار بُرج الضخامة الجسدية والقوّة الجسمانية بطلقة مسدّس أو سيل طلقاتٍ من رشّاش أو بضربة سكينٍ غدّار.

لكن ضخامة توني سوبرانو تَهزِمُ الأسلحة بطريقةٍ سحريّةٍ تَجعلُ منه بطلًا خارقًا وإحدى قواه هي ضخامته ذات الوجهين: الرمزي والحرفي. لا شَكّ أنّ هذه الضخامة تُصاب بهذي الأسلحة الفتّاكة وتَقتَرِب من الموت على يد حامليها ومُطلِقي رصاصها، لكنّها تنهض دومًا لتُعلِن نَصرَها المظفّر وأنّ أعداءها الّذين فشلوا بقتلها.. ضَاعَفوا قُوّتها!

وهذه الصفّة المميّزة تتجاوز ظاهرها الفيزيولوجي/الحرفي لتتموضَع في باطن الرمز، وتُوصِل رسالةً مفادها أنّ كلّ خصمٍ لابن جوني سوبرانو ليسَ نِدًّا له، وأنّ مُناوئيه لم يعرفوا حجمهم الحقيقي في صراعهم المُميت معه. وتلعبُ هذه “الهِبة”، دورًا محوريًا على مدار ستّة مواسم، ولا يبدو أنّها مجرّد صدفة أو تفصيل ثانوي أنّ هذا المافياوي صاحب ملامح الوجه التي تبدو طفولية أحيانًا، ضخم الجثّة (الفضل لضخامة بُنية الراحل جيمس چاندولفيني.. صاحب الـ185 سنتيميترًا)؛ إذْ تتمّ الإشارة في عدّة مواقف وعلى لسان حلفائه وأعدائه إلى ضخامة بُنيته، وأحيانًا تأتي الإشارة على شكل سخرية من سُمنته، تُسترُ حسدًا على هذه الصفة التي يفتقر إليها من يُناصبونه العداء.

تُحيل تلك الضخامة إلى بداءة البشر، الذي فقد الإنسان الحالي أو “المُعاصِر”، الاتصال بها تحت إغواء -وأحيانًا إرغام- التمدُّن والتصنيع والقانون، والتحديث المستمرّ أو كما يُسمّيه زيچمونت باومان1 “التغيير الوسواسيّ القهريّ المُتَواصِل”، وتسهيل الحياة بالتقنية والذكاء الاصطناعي.. إلخ. ذلك الإنسان الموهوم بتمتُّعه بأمنٍ ليس في يده بل في قبضة حكوماتٍ ومنظّماتٍ وشركاتٍ ونُخَب، “الإنسان الفاقد للحُكم الذاتي والاستقلاليّة والمُبتلى بـتعطيل عملية السُلطة” بتعبير تِد كازنسكي2، الذي يُقارِن في بيانِه الشهير “المُجتمع الصناعي ومُستقبلُه” بين الإنسان البدائي الذي يمتلك غالبًا أمنه بين يديه (إمّا كفردٍ أو عضوٍ في مجموعة صغيرة)، و”الإنسان المُعاصِر” الذي وُضِع أمنه بين أيدي أشخاصٍ آخرين أو منظّماتٍ بعيدة عن مُحيطه وأكبر من أن يتمكّن من التأثير عليها شخصيًا.

بالطبع لا يعيش زعيم عائلة ديميو بأمنٍ دائمٍ، بل يُقيم في ديار الرُعب. لكنّه يَملِك التحكّم بأمنِه وحماية نفسه وعائلته من التهديد؛ إذْ إنّ عملية السُلطة عنده لم تتعطّل، بل يخوضها يوميًا ويُمسِك بزمامها تمامًا، ويَعرِف كيف يُلبّي نداء البداءة متى ما اقتضَت تلبيته.

توني ليس مجرّد رجلٍ ضخمٍ آخر؛ إنّه حيوانٌ بريّ، لا يزالُ فيه كما يقول جان بودريار3: “ذلك المعنى الذي لم يتغيّر للوحشيّة، تلك الوحشيّة الأصليّة للحيوانات التي هي موضوع رعبٍ وانبهار”. ولقد كانت وحشيّته موضوع رُعبٍ لقلوبنا وإبهارٍ لنا.. فنُعجَبُ به ونُحبُّه ونؤيّده على الرغم من معرفتنا بأنّه مُجرِم.. لكنّه أيضًا صاحب نمط حياةٍ أنيق، يتألّق مُرتديًا قمصان “ألوها” ويَسحَرُنا وهو يَنفُث دخان سيجار CAO ويلعب الغولف، ونشعر بفخرٍ يخالطه الانبهار بأنفسنا حين نعرفُ أنّه مِثلُنا.. يُصاب بالاكتئاب ويتعاطى البروزاك (Prozac).. وهو حيوانٌ وحشي لكنّه يُحبُّ البَطّ ويَرعاه!

ربما يُخبرنا هذا الشبه وتقول لنا تلك “الوحشية الأصلية” بأنّ هناك حيوانًا كامنًا في أعماق الإنسان مهما تحضّر.. مخلوقٌ همجيٌ موجودٌ منذ أن كان الذكر الأقوى أقرَب لغوريلا تصطاد ما تُريد وتظفَر به، وبتفوّقها على الغوريلات الأخرى تَسود. مع فارقٍ وحيد: ليس ثمّة هُنا غوريلات إلّا توني! وليس أمرًا عجيبًا أنّ الجانب الحيواني من “تي” طاغٍ على أفعاله أيضًا: هوسُه بالجنس مُمثّلًا بمُضَاجَعَتهِ لأيّ أنثى تَقذِفُها الصُدفة في طريقه، شراهته في تناوُل الطعام، إتقانِه لِلغةٍ واحدةٍ هي العُنف والتحدُّث بها بلكنةٍ همجيةٍ مع كُلّ من يَقِف عقبةً في مشواره إلى وجهة المجد. وما الدُبّ الذي ظهر في ساحة منزله إلّا رمزٌ لسوبرانو ذاته؛ إذ إنّ مصدر التهديد لأُسرته هو نفسه رَبُّها! وهُنا لا بُدَّ من استحضار حلم طبيبته النفسية جينيفر مِلفي حين حلمت بكلبٍ أسودٍ ضخمٍ يَنتقِم من مُغتَصِبِها الذي تمنّينا رؤيته مُعذّبًا على نحوٍ سادي على يد مريضها.. ذلك الحيوان الوحشي، لكن رغبتنا بالانتقام بقيت مكبوتة.

على الضفّة المُقابِلَة لضخامة توني هُناك ضآلة خصومه: بعد إلقاء نظرة سريعة عليهم من أوّل الأعداء وحتى من يُفترَض أنّه آخرهم فِل لوتاردو، لن نجدَ واحدًا منهم يُضاهيه في بُنيَتِه وقوّته، وكأنّ الأميركي ديفيد شايس والذين معه من خالقينَ لهذا العمل البديع، تعمَّدوا أن يكون المُمثّلون المؤدّيون لأعداء بَطلِه ضئيلين جسديًا؛ لنحسّ دائمًا بتفاهتهم وسخافتهم ولكي لا نأخذ واحدًا منهم على مَحمَل الجِدّ ونطمئن بأنّ النصر مكتوبٌ لبطلنا دومًا وبأنّ هذا الآخر بالنسبة له لَمْ يَكُن جحيمًا، بل نعيمًا.. نعيمُ الضآلة التي تَسحَقُها الضخامة بكل أريحيّة.

هذه الصفة ليست على المستوى الفيزيولوجي فقط، إذ يتمتّع الأعداء بضآلةٍ معنويةٍ واضحة أيضًا؛ بدءًا من عمّه كورادو جون “جونيور” الزعيم الرسمي لكن الشكلي فقط لعائلة ديميو. صحيحٌ أنّه ليس قصيرًا ولا ضئيلًا بشكلٍ ملحوظ، لكنّه إنْ وُضِعَ جنبًا إلى جنب مع ابن أخيه، بدا هزيلًا وضئيلًا (ولتقدّمه بالعمر دور)، عدا عن الجانب الهَزَلي أو التهريجي لشخصيّته وليسَ عجيبًا أنّه ظنّ نفسه لاري ديڤيد، حين شاهده على التلفزيون في مسلسل Curb Your Enthusiasm.

يبدو العَمّ جونيور أقرب لطفلٍ يَسهُل التحكُّم بِه من قبل أُمّه المُتلاعِبَة، ولقد تحكّمت بِه كدُمية متحرّكة ووجّهتهُ بخيوط دهائها أينما أرادت، زوجة أخيه ووالدة توني.. ليفيا. لقد حاول جونيور جاهدًا أن يكون زعيماً حقيقيًا للمافيا -لا بالاسم فقط- لكنّه فشل، لا لسُلطة ابن أخيه وقوّة تحالفاته ودهائه، إنما لأنه بِبُنيته وتكوينه دون ذلك؛ لأنّ الطبيعة لم تنتخبه ولم ينشأ ويرتقي ليكون قياديًا حقيقيًا. وبالرغم من ذلك، شكّل العمّ لابن أخيه مصدرًا للقلق وللكثير من المتاعب، وكاد أن يتسبّب في موته مرتين، لكن كلّ ما فعله أو حاول فعله وإن كان فيه تهديدٌ وجوديّ، إلّا أنّه ليس أكثر من إزعاج قطٍ منزليٍ لنمر.

ثمّة أعداء آخرون كانت خصومتهم أكثر جديّة وتهديدهم أشدّ خطورة، مثل ريتشي أبريل، ذاك المافياوي الأصيل، المُنتَمي للمدرسة التقليدية، الشيطان الرافض للسجود لزعيم المافيا حديث العهد. ريتشي صغير الحجم ومن أقصر خصوم سوبرانو، لكنّه كبيرٌ في جرأته وقوّته و”جنونه”؛ إذ مستعدٌ لممارسة أكثر أشكال العنف ساديةً على خصومه بضميرٍ مُرتاح، ومواجهة من هم أكبر منه بكل جسارة دون الخوف من الخسارة. مشكلته الوحيدة أنّه لم يَعرِف حجمه جيّدًا ولم يُتقِن عقد تحالفاتٍ تُعوّض ضآلته! وربما في سيناريو موازٍ كُتِب لريتشي أن يكون دوره أعظم على حلبة المصارعة المافياوية، حيث لم يرتبط بأخت توني جانيس التي قتلته فجعلت نهايته سريعة.. وضئيلة.

مع تقادم الفصول يتعثّر توني بخصومٍ يتراوحون بين ضآلةٍ لا تُؤخَذ على مَحمَل الجِدِّ لكنّها مزعجة، وأخرى يمتزج فيها الإزعاج بالتهديد الوجودي، ويصبر عليها مضطرًا، حتى ينفذ مخزونه من الصبر، فيضَعُ حَدًا لها. الحديث هُنا عن رالف سيفاريتو، المُختَل وكاره النساء والمكروه من الجميع، والذي تدور بينه وبين زعيمه رحى حربٍ باردة على مدار موسمين، تنتهي بقتالٍ مميت على غرار لعبة الفيديو Mortal Kombat حيث يَظفرُ الأضخم بنصرٍ لا تشوبه شائبة Flawless Victory يُجهِزُ معه على خصمه المهزوم بحركةٍ ختاميةٍ لا تقلُّ وحشيّةً وإذلالًا عن حركة الـ Fatalityفي تلك اللعبة الشهيرة.

لكن الحاصل على لقب الخصم الأكثر ضآلة بدون مُنازِع هو آخر الأعداء فيليب “فِل” لويتاردو، زعيم عائلة لوبيرتازي في نيويورك -بعد رحيل جوني ساك-؛ إذْ كان غلبُه مسألة وقت وكُنّا نَحنُ منذ ظهوره نُشاهِد مباراةً نعرف مُسبقًا نتيجتها لكنّنا مُستمتعون بأحداثها! فِل كان ينظُر لكل ساحة الصراع المافياوية وعلاقاتها المُتَشابكة وتطوّراتها المُتسارِعة بمنظار الجيل القديم ويُعالجها بأدواته التي عفى عليها الزمن. وهو استعراضيٌ وانفعالي، تَغلِب عليه صفات المتنمّر التقليدي الذي يحتاج لأن تكون عصابته حوله لكي يفرد عضلاته، أمّا لوحده فيستحيلُ دُودةً مُنكَمِشَة! إنّه مُدّعٍ للقوّة لا مالكٌ حقيقيٌ لها، تَعوزُه الكاريزما التي يملك خصمُه فائضًا منها. وربّما مشهد مطاردة توني لفِل بالسيارة على وقع أنغام أغنية Rock the Casbah لفرقة الروك الإنكليزية The Clash، في الحلقة السابعة من الموسم الخامس، هو أفضل تجسيدٍ لفضل ضخامة الأوّل على ضآلة الثاني، أمّا خاتمته فقد جاءت تافهةً تليقُ بـ”شرير تافه” مثله!

حتّى أولئك البعيدين عن الضآلة، من خصومٍ كان توني يحترمهم وعلاقته بهم تتأرجَح بين العداوة والتحالُف والاختلاف والتآلف في سياق حربٍ باردةٍ طويلة، اتّسمت خاتمتهم بالضآلة، مثل جوني ساك الذي سُجِنَ ثم أصيب بالسرطان ليقضي نَحبَهُ على فراش مستشفى السجن وبجانبه عائلته.. لا في ساحة الحرب بين العائلات. هُناك أيضًا خصمان مُهمَّان من عائلة ديميو يَنطبِقُ عليهما الشيء ذاته: ابن العم توني بلونديتو أو توني بي الذي كانت نهايته مثل قصّته كلّها.. مأساة! أو فيتش لا مانا صاحب الأمجاد القديمة والمُتشوّق لإعادة ماضيه الذهبي، الذي تجنّب الزعيم إزعاجاته المتتالية بإبعاده إلى السجن.. لا إلى العالم الآخر كما يفعل بالعادة.

ثمّة مُفارَقَة طريفة لا يُمكنُ إهمالُها، وهي أن الشخص الذي يُضاهي توني ضخامةً كان بوبي باكاليري أو بوبي باكالا الابن، أحد جنوده ومُساعديه الأوفياء وزوج أُخته الذي استقرّت عليه ومعه. بوبي وإنْ كان توأم سوبرانو بالضخامة إلّا أنّه ليس نِدًا له؛ فهو رجلٌ بسيط، هادئٌ وصادقٌ وخجول، مخلصٌ لزوجته ولم يكن قاتلًا في حياته إلّا قبل أن يُصبِح هو نفسه قتيلًا بفترةٍ قصيرة.. وكل هذه الخِصال يَحملُ سوبرانو نقيضها. لكن مع ذلك، تَفوّق بوبي على زعيمه وشقيق زوجته في عراكٍ مشحونٍ بالثُّمالة والأحقاد المدفونة بين الرجلين، بدا كل واحدٍ منهما -بالنظر إلى حجمهما الضخم- دببةً تُقاتل بعضها.

هذه الضخامة الجسديّة المُعزّزة بشخصيةٍ ضخمة والمدعومة بقوّةٍ ممزوجةٍ بالمكر، تُصيبها نوباتٌ من الضآلة على يد ألدّ الأعداء وأخطرهم: “الأم”.. ليفيا، المُصابة بـ”اضطراب الشخصية الحدّية” الكارهة لابنها والمتلاعِبَة به والمتسبّبة دائمًا بالمتاعب له، والتي تلاعبت أيضًا بعمّه لقتل ابن أخيه الوحيد. العلاقة الشائكة والمضطربة بين الابن وأمّه، تنعكس على كثيرٍ من أفعاله بشكلٍ غير واعٍ، مثل وقوعه في غرام نساء فيهنَّ الكثير من صفات أمّه وحاملات لبعض اختلالاتها واعتلالاتها، وهُنا تُضاف مفارقة أخرى إلى رصيد هذا العمل الحافِل بالمُفارقات: زوجة توني كاراميلا كانت نقيض أُمّه وعكس عشيقاته!

كل الأعداء كان يسحقهم زعيم مافيا جيرسي كالحشرات بين يديّه الغليظتين، ولم يكونوا ليتركوا أيّ أثارٍ عليه. بينما خلّفت فيه أمّه آثارًا وعقدًا وجروحًا وأزماتٍ لم تذهب حتّى بعد رحيلها! وكم هو أمرٌ مثيرٌ للسُخرية أنّ الأمّ بنَسجِها للعُقَد في نَفس ابنها منذ الطفولة، تستطيع بمنتهى السهولة تحويل الشِدّة التي تُميّزه إلى هشاشةٍ تُضعِفُه!

في النهاية تنتصرُ ضخامة الحيوان الوحشيّ بكل معناها الأصليّ على ضآلة الإنسان العاديّ، وليس في عالم سوبرانو مكانٌ للمثاليات ولرومانسياتٍ حول شهداءٍ أضرّوا بالحقيقة -كما يقول نيتشه4– والقوي يَغلِب الضعيف، سُنّة الكونِ في أَبسَط صورها! لكن، ثمّة هناك احتمالٌ بأنّ هذه الضخامة قد غلبها المكر، وبأنَّ نرجسيّتها وغرورها منعتها من رؤية كافة الأعداء، ولم تُدرِك بأنّ العدوّ قد يكون مُختَبئًا مثل الشيطان بين سطور مواقفَ منسية وتفاصيل حياةٍ عادية، وبأنّ أسوأ الاحتمالات -أي الموت- قد لا تحدث على يد الأعداء البارزين بوضوح كعنوانٍ رئيسيٍ في صحيفة، بل على يد أشخاصٍ ثانويين، لا يحسّ المرء بوجودهم، يقبعون على هامش وجوده، يتسرّبون بهدوءٍ كقطرات ماءٍ تتراكم مُسبّبةً غرقه.. ويتسلّلون إلى مرماه ليسدّدوا هدفًا وحيدًا.. هو إنهاء وجوده.

وإنْ صحّت النظرية التي تقول بأنّ توني قُتِل في تلك النهاية -التي أبدعها دايفيد شايس وتركنا من بعدها حائرين حتى بعد مرور أكثر من 15 عامًا على عرضها- وأنّ السواد الذي في ختام الحلقة الأخيرة هو إعلانٌ ضمني بذلك، فهي مفارقةٌ كُبرى أنّ هذا الزعيم الضخم مُرعِب الجميع ومُبيد أيّ تهديد.. لم يَلقَى حَتفَه على يد عمّه أو فيل ليوتاردو أو ريتشي أبريل أو حتّى مكتب التحقيقات الفيدرالي بل على يد شخصٍ لا نعرف من هو، رجلٌ من عامة الناس يرتدي سترة من العلامة التجارية Members Only، وغالبًا هو مُجرّد منفّذٍ لمؤامرةٍ تَقفُ وراءها زوجة أحد جنوده المُنتحرين -بسببه- يوجين بونتيكورفو وربما بالاشتراك مع باتسي باريزي الذكي والماكر، الذي أصبحَ مُقرّبًا من توني أكثر بعد خطبة ابنه من ابنة زعيمه. وهذه السيناريو الذي يبدو منطقية جدًا، إن حدث فعلًا، فهو أمرٌ مثيرٌ للسُخرية بالرغم من مأساويته، أنَّ رجلًا على هذا القدر من الضخامة قد انتهى بتلك الضآلة!


مراجع:

  1. الحداثة السائلة – زيچمونت باومان، ترجمة حجّاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر
  2. المجتمع الصناعي ومستقبله: بيان مفجّر الجامعات والطائرات، تِد كازِنسكي، ترجمة رقيّة الكمالي، منشورات تكوين
  3. المصطنع والاصطناع – جان بودريار، ترجمة جوزيف عبد الله، المنظّمة العربية للترجمة
  4. نقيض المسيح – فريدريش نيتشه، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل