
يبدو التشابه بين الفيلم الهونغ كونغي غَدٌ أفضَل (١٩٨٦) وأفلام حركة/إثارة/جريمة حديثة مثل جون ويك (٢٠١٤) واضحًا جدًا. ليس فقط من ناحية امتلاء الفيلمين بالجُثَث وغرقهما بأنهار الدماء؛ فهذا شيءٌ مشترك في هذا الصنف من الأعمال السينمائية. التشابه الأهم يتمثّل في وقوف البطل لوحده في مواجهة كُل العالم، غير آبهٍ بأن الجميع أصبحوا أعداءه. ومنذ لحظة اتّخاذه هذه الوِقفة، يكون مُدرِكًا تمامًا أنّه مُعرّضٌ لخسارة كل شيء، وموقنًا أنّه لو اختار السلام والكفّ عن المواجهة لارتاح من تكبُّد عناءٍ غير يسير ولَربِحَ كل شيءٍ في العالم.. إلّا نفسه!
لكن هذ البطل مؤمنٌ بقضية، وإيمانُه هذا يتنافى مع حسابات الربح والخسارة. كذلك لا يعني له السلام شيئًا؛ فالسلام استسلام يتناقَض مع هذا الإيمان، ولا يمكن ُصنعه بحقّ إلا بالدفاع عن القضيّة والقتال بشراسة من أجلها.. قضيّة البطل والتي قد تكون الأخ/العائلة في “غَدٌ أفضل” أو الكلب والسيارة في “جون ويك” أو أي شيء صالحٌ لأنْ تُخلَق منه قضيّة أو مرتبطٌ بذكرى يُختَزَلُ فيها وجوده واستمراره بخوض معاركِه.
البطل هُنا ليس عَدَميًا؛ إذ إنّ كل هذا القتل البارد وجميع ذلك الرصاص المُنهَمِر من الرشّاشات والمُسدَّسات والقنابل والسكاكين للدفاع عن المعنى.. ذاك الشيء الوحيد الذي لا يُريد البطل أن يخسره! إنه قتلٌ يُمكنُ وصفه بالصلب والجامد، بعد استعارة مفاهيم السيولة والصلابة من قاموس زيچمونت باومان الزاخر، فِعلٌ يُمارَس وِفقَ مرجعية، وله في النهاية غاية، ويَحدُثُ في سبيل معنىً ما. لا قتلٌ سائلٌ ومائع، فاقدٌ للهدف ورصاصُه طائشٌ وبنادقُه عمياء كما في سلسلة ألعاب الفيديو ماكس باين (٢٠٠١-٢٠١٢) أو فيلمي الفتى العجوز (٢٠٠٣) وسيكاريو (٢٠١٥) مثلًا لا حصرًا.
بالرغم من قساوة وبرود “غَدٌ أفضَل”، الذي أخرجه الصيني جون وو رائد أفلام الحركة السابق لعصره -مخرج الوجه المخلوع (١٩٩٧) والمهمّة المستحيلة (٢٠٠٠) والقاتل (١٩٨٩)- وتَشبُّع هونغ كونغ بالدم والجثث والأشلاء والفساد والفوضى وسيطرة العصابات عليها واستسهال فعل القتل وانعدام أي معنى، إلّا أنّه ثمّة مكانٌ لقيم العائلة والصداقة والأخوّة والحُبّ، تلك القيم التي تُهجر وتُعلنُ حالةً استثنائية، فيما يُشاع التقليل منها والتخلّي عنها ويصبحُ وضعًا عاديًا، في ظلِّ عصرٍ يتحوّل فيه البشر إلى أشياء قابلة للاستبدال، إلى مراحل لا أكثر يَمرُّ كل إنسانٍ بها، وتَنمَسِخُ العلاقات الإنسانية بما تحمِلُه من قيمٍ ومعانٍ إلى تعاملاتٍ نفعيّةٍ داخل نادٍ ليلي لا أكثر.
اليوم/الحاضر/الآن ليس جيدًا ولا جميلًا، وغالبًا لن يكون أفضل؛ إنّه مُمتلئٌ بالفساد وعامرٌ بالشر ومُكتّظٌ بأشخاصٍ يُعادون الإنسان قبل أي فكرةٍ أو كيان، ويسعون بأفعالهم إلى إعلان موتِه. لكنّ هؤلاء الأبطال الّذين يُمكن إساءة فهمهم والاعتقاد بأنّهم أشرار، (والعالم بحاجة لرجالٍ أشرار ليحموه من الأشرار الآخرين أو الأكثر شرًا كما يقول راست كول في مسلسل محقّق فذّ)، هُم أنصارُ الشَرِّ المُضَاد لِشَرّ هذا العالم ومُمَارِسو العُنف الصَلب ضد العُنف السائل، الّذين لا يستسلِمون لهذه العدميّة السلبية ولا ينهزمون أمام طُغيان سُلطان الفساد، فيمتَشِقون مُسدَّساتهم ويُطلِقون نيرانهم بلا رحمة، في سبيل المعنى والأُخوَّة وكلّ ما يستحيلُ استبدالُه ولا يُمكن تَعويضه، من أجلِ غدٍ سيُصبِحُ أَفضَل.. لا بالسلام والحُب، بل بالعنف والدم!