
هَرَبَ صفوان المِقدام من الصحراء مع أنّ فيها مالًا وفيرًا يضمن له أقلّ قدرٍ من التعاسة التي ورثها عن والده، بعد أنْ سأم حرّها وتَعِبَ من الصخرة التي كانت تُوضَع على صدره يوميًا من الساعة التاسعة صباحًا ولغاية الثامنة مساءً. وكان ربّ عمله أميّة السائد يقول له: إنّ شركتنا أفضل من المنافسين الآخرين في أسواق عبودية الصحراء؛ فهي لا تُجبِر عبيدها المكرّمين على العمل لأكثر من 11 ساعة، بينما يُجبِر منافسوها عبيدهم المُهانين المذلّين على العمل 12 ساعة. ودأب أميّة على نُصحه: اقرأ كارل ماركس، لتفهَم هذا العالم أكثر! وكان صفوان حينَ يُنهي عمله يقف على رأس جبلٍ عالٍ -كأنّ نهايته تقود إلى إلهٍ ما- كان يسكن عليه ويحلم بالقفز من عليائه ليهبط إلى فردوسٍ مفقود، نسي أين ومتى فقده.
وفي طريق عودته إلى الديار، أخذ صفوان يفكّر في مدينته التي لم تكن فردوسًا لكنّها لم تكن صحراءً ولم يكن أهلها عبيدًا، وكان فيها ماء وعشب أخضر وفاكهة وفيرة وهواء عليل وفصول أربعة ووجه حبيبته نسمة: “آه كم اشتقتُ لها، لمعانقتها والاتحاد معها، للفرح والحزن برفقتها، للحديث في ما لا يُهمّ العالم لكن يُهمّنا، للمزاح معها حول قِصَرِ قامتها الذي كنتُ أحبّه جدًا، لالتهام المُجدّرة التي كانت تُعدُّها بدفء”.. حدّث نفسه وهو يستمع لأغنيةٍ عنوانها “ثلج” اعتاد إهداءها لنسمة التي كانت على الدوام ثلجًا يُطفئ نار البؤس التي أوقدها والده مِقدام الذي أصرّ على مجيئه للعالم وعوضًا عن تصحيح هذا الخطأ -خطأ المجيء إلى عالمٍ هرمٍ كهذا- اختار أن يكون مسقط رأسه مدينةً لا تتقنُ إلّا إخصاء الآمال.
وحين حطّ رحاله في مدينته، وجدها مدينةً أخرى؛ كانت مظلمةً مع أنّ الساعة الثالثة عصرًا، والطقس باردٌ بقسوةٍ مع أنّ الربيع حلّ على المدينة قبل أيام! ولم يعد فيها أيّ ماءٍ أو عشبٍ أخضر أو مناظر طبيعية تُعقّم العين من لوثةِ عالمٍ سعيدٍ بِقُبحه وإجرامِه. ليس هناك إلّا حجرٌ مُملٌّ يفتح الشهية لموتٍ أرحم من المَلَل وأَسْفَلت تنطلق منه أيادٍ تخنق رقابًا اعتادت على الخضوع وحديدٌ يُسمّم الروح المتبقّية في زجاجة كحول الوقت وسياراتٌ مُدرّعةً يقطنها رجالٌ يرتدون النظارات السوداء والشوارب الكثّة والرجولة المستعارة، وأضواء ملوّنة قويّة وضوضاء عنيفة وكأنّ المدينة استحالت ناديًا ليليًا ضخمًا لكن لا بلا رُوّاد؛ إذْ علم صفوان أنّ سكّان المدينة تم التخلّص من أغلبيتهم، فيما تمّ استيراد جنودٍ من الخارج ليحرسوا المدينة الفارغة تقريبًا من البشر، والغاصّة بمزيجٍ سُرياليٍ من الخواء والضوضاء.
وعَلِمَ صفوان أنّه تم الإبقاء على الناس الذين يقل طول قاماتهم عن 170 سَنتيمترًا، ولحسن حظّه كان طوله 169 سم وكان هزيلًا كمعنى الحياة. حتى أنّ الجنود المُستورَدين الذين يحرسون المدينة كادوا أن يقتلوه بنيرانهم الصديقة بالخطأ من شدّة ضحكهم على هيئته وسحنته، حينَ ذهب إليهم طالبًا تصريحًا بالعيش في شبح مدينته.
وحين أَخذَ يتجوّل في المدينة التي لا تعرف إلّا الليل الذي اغتصَب النهار والضوضاء المشبّعة بالوحدة وقصيري القامة، بادرَ إلى سؤال أحد الباعة المتجوّلين -وكانَ قَزَمًا- عمّا حدث للمدينة، فأجابه:
إنّها فسدت وفسقت واعوجّت كثيرًا، فكما ترى كلّها أضواء وضوضاء وقد حلّ فيها الوباء. لذلك اجتمعت لجنة من الرجال الأخيار الصالحين الذي يجري حُبّ هذه المدينة في عروقهم وكؤوس عرقهم، وقرّرت أنّ سكّانها هم المسؤولون عمّا حدث فيها؛ فقد فسقوا فيها ودمّروها تدميرًا، ورأفةً منهم بسكان المدينة الذين يُحبّونهم أكثر من أمهاتهم، قرّروا معاقبة متوسطي وطويلي القامة فقط بإبادتهم، ولقد نجا من هذه الإبادة الرياديّة الخلّاقة كلّ من كان تحت 170 سم، وأنا واحدٌ منهم كما ترى!
أنهى البائع القزم شرحه ضاحكًا مُقَهقِهًا على ما يُفترض أنّها مزحة عن قِصَر قامته الشديد! وقبل أن يذهب أمسك به صفوان بقبضةٍ قويّة بدا معها القزم كيسًا من العدم، وسأله:
-معذرةً على أسئلتي الكثيرة، لكنّي جئتُ للتوّ من السفر. في حديثك قُلت إنّها كانت إبادةً رياديةً وخلّاقةً، ماذا يعني ذلك؟
*لقد كانت إبادةً الهدف منها مصلحة المدينة، فمثلًا تم طَحنُ عظام البعض وتزفيت الشوارع بها، والآن كما ترى شوارعنا تتزحلَق فيها السيارات وكأنّها في مدينة ألعابٍ ترفيهية! وآخرون تم قلع عيونهم ووضعها في أعمدة إنارة الطُرُقات وكما ترى المدينة تشعّ بضوءٍ يخطف الأبصار والحمد لله. والبعض تم سلخ جلودهم واستعمالها لكسوِ الأثاث الذي يستريح عليه بعد جُهدٍ جهيد الرجال الذين أنقذوا المدينة من سكانها الفاسدين العابثين. وكلّ الذكور الذين تم الخلاص منهم قُطعت أعضاؤهم التناسلية وتم تحنيطها بالتجميد وتُستخدَم اليوم كأدواتٍ جنسية للراغبين بتجريبها وللحالمين بامتلاكها! وبالمناسبة أنا أبيعُ أثقل أنواعٍ وأكبار أحجامٍ منها، فاشترِ منّي وستكون راضيًا وسأقدّم لك سعرًا مُغريًا! اسمع مني.. خذ هذا، إنّه آخر موديل في السوق، قُطِعَ اليوم وطوله 27 سم.. هذا نادر!
-أوه هذا لطفٌ منك، لكن شكرًا، بالكاد أستخدم القطعة التي عندي! سؤالٌ أخير.. أعِدُك!
* لقد أطلت في أسئلتك! أمامي عمل كثير وزبائن وعملاءٌ مستعدّون لبيع أرواحهم لقاء عضوٍ واحد! هيّا قُل بسرعة ولا تهدر وقتي أكثر.
-لماذا كل البيوت أنوارها مُطفأة، ويبدو أنّ لا روح فيها؟
*حسنًا، لقد قرّر الرجال الذين أنقذوا المدينة أن يعيش سكّانها الصالحون في الشوارع، وليس في ذلك تشريدٌ أبدًا -وفقًا للبيان الذي تمّت تلاوته فور بدء مشروع الإبادة الرياديّة- بل حبًا بالأهالي وصحّتهم؛ فالنوم على الأرصفة وعتبات المنازل ومداخل العمارات عملٌ ثوري وفيه التحامٌ بأُمّنا الطبيعة. وكذلك وكما تعلم الأرض لله يرثها لعباده الصالحين، فما حاجة الصالحين الذي يملكون الأرض لبيوتٍ كريهةٍ سامةٍ لا شيء فيها إلّا المعيشة الضنكى. ثم إنّ ذلك يوفّر عليهم البحث عن عمل من أجل النقود اللعينة؛ فالإنسان الصالح يحتاج النقود فقط من أجل منزلٍ يأويه، وقد كشف هؤلاء الرجال المباركون أنّ فكرة المنزل بأساسها مجرّد مؤامرة ضد الطبيعة البشرية!
قَطعَ القَزَمُ كلامه، وأخذ يُعاين بيدين صغيرتين.. قضيبًا ضخمًا ليتأكّد من جُودَتِه، ثم هَمَسَ لصفوان:
بيني وبينك.. تَزعُم بعض الأنباء الخاصة والحصرية التي وصلتني ممّن أبيعهم هذه الأَقضِبَة، أنّ مجموعة مستثمرين لا يُعرف لهم بَلَد ولا سَنَد، قد ظَفرَت بعطاءٍ لتحويل هذه البيوت إلى مؤسّساتٍ وشركاتٍ ليذهب إليها هؤلاء الصالحون عندما يَملّون من المبيت والتجوال في أرض الله الواسعة، للترفيه والتسلية عبر ممارسة بعض أعمال الإنجاز والإنتاج مجانًا بالطبع.. فقد أُلغِيَ مفهوم العمل المأجور!
رَحلَ القزم وهو يصيح بأحجام الأَقضِبَة التي يبيعها وأسعارها. أمّا صفوان فشعر بكرهٍ غير مسبوقٍ للجنس البشري وتمنّى لو أنّ الإبادة شملت كلّ سكّان الأرض وحلم لو أنّه فقط أطول بسنتميترٍ واحد! ومن شدّة النصب الذي لاقاه من سفره، وجد نفسه مُسجّىً على رصيف خمارةٍ اعتاد على شراء العرق المحلّي اللذيذ منها. وشعر بخدرٍ مريحٍ يسري في أرجاء جسده، ربما لأنّ أحدًا لن ينهاه عن النوم على قارعة الطريق؛ فالتشرّد أصبح عملًا صالحًا وعلامةً على التقدّم. وغرق صفوان في نومٍ عميقٍ ودافئ على سطح الرصيف البارد، وولجَ على الفور في كابوس: ما زال في الصحراء، توضَعُ الصخرة على صدره من التاسعة صباحًا إلى الثامنة مساءً، ورأى ربّ عمله أُميّة السائد يأمر بإزاحة الصخرة قليلًا إلى اليسار وهو يهذي بكلامٍ عن فكر ماركس وأهميّته وراهنيّته، ويدعو العمال والفلاحين والطلبة إلى الثورة وهو يلوّح بأعلام شركاتٍ عابرةٍ للقارات.
وسرعان ما تحوّل الكابوس إلى حلمٍ جميل وبدأت الكلمات تخرج بصعوبةٍ من فم صفوان بسبب الصخرة الملقاة على صدره: على الأقل.. هنا يوجد مالٌ وفير ومقتنياتٌ متنوّعة وبأرخص الأثمان.. وما زال هناك بشرٌ من مختلف الأحجام حتى لو كانوا عبيدًا.. وهنا صحراء لكنّها صريحة كعاهرةٍ تحدّد بوضوح أجرها في الساعة، ويتعاقب عليها ليلٌ ونهار. وانغمس صفوان أكثر فيما كان كابوسًا ثم أصبح حلمًا ولم يعد يفرّق بينه وبين الواقع، لكنّه تذكّر حبيبته نسمة: “ربما هي الآن تزرع بعض الأمل”.. ثم رجع للمقاومة والتفريق بين الحلم والواقع وعاد الحلم ليتحوّل كابوسًا، وحاول الاستيقاظ لكنّه ظلّ عالقًا في الصحراء.