الإيطالي إليو بيتري مُحقِّقًا مع سُلطة فوق مستوى الشُبُهات

“لقد سُلِّمْتُ كُلَّ سُلطَةٍ في السَّماءِ وعلى الأرض”

إنجيل متى ۲۸: ۱۸

محقّقٌ فاسدٌ ومُتلاعِبٌ من شرطة روما، يقتل عشيقته، بالتزامُن مع ترقيّته إلى رئيس مباحث قسم الجرائم. هذا ما يحدث مع بداية فيلم “تحقيقٌ مع مواطنٍ فوق مستوى الشُبُهات”، الذي أخرجه الإيطالي الراحل إليو بيتري (صاحب فيلم الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة) عام 1970، وحتى تلك اللحظة لا شيء غير عادي أو مثير للاهتمام. لكن حين يَحرصُ المُحقّق “دوتوري” أو “الدكتور” (الراحل جيان ماريا فولونتي) على تركِ أدلةٍ في مسرح جريمته -التي يُحقّق هو نفسه فيها!- تُثبت مسؤوليته عنها، يُصبِح الأمر مُحيّرًا ومُبهَمًا؛ إذْ يتساءل المرء: لِمَ قد يُقدِم رجلٌ صاحب سُلطةٍ منفلِتَة من عِقالِها على فعل شيءٍ أحمقٍ كهذا؟ لماذا تعمَّد إثباتَ مسؤوليّته عن جريمة القتل؟

ويبدو الجواب بَدَهِيًا أو لنقُل سهلًا، ويمكن استنتاجُه من عنوان الفيلم: ليُثبت المُحقّق أنّه “فوق مستوى الشُبُهات”؛ أنّه حتى لو كانت هناك حُزمةٌ من الأدلّة (بصماته، خيطٌ من ربطة عُنقِه، آثار حذائه، صورٌ له مع الضحيّة، أحد الشهود قد رآه، وغيرها) فإنّه بوصفه حارسًا للقانون وراعيًا للعدالة بريءٌ بالضرورة. وتلك الأدلّة التي تُثبت تورّطه في الجريمة لا تعني شيئًا أبدًا؛ فسُلطَتُه كرجل أمن تجعله في العلياء بعيدًا عن أيّ شبهةٍ قد تُدنِّس ذاته السُلطويَّة المقدّسة. وإن كان الدكتور/دوتوري الخصم، فهو أيضًا الحَكَم، إذا استعرنا تعبير المُتَنبِّي: خصمٌ للقانون والعدالة، وهو كذلك القانون نفسه وسُلطَتُه هي العدالة الوحيدة التي يُمكِن توفيرها.

لكنّ الأمر يغدو أكثر إبهامًا مع انتصاف العمل، فبعد كلّ محاولات إِلصاق التهمة بالآخرين (زوج عشيقته المثليّ، وأحد الطلبة “الأناركيين الفرديّين” الذي كانت تنام معه الضحيّة).. وبعد أشواطٍ طويلةٍ من التلاُعب المريض، يعترف المُحقّق الفاسد بمسؤوليّته الكاملة عن الجريمة لرؤسائه أو آباء النظام الّذين في السماء.. الّذي سُلِّمَ هذا الإنسان المُبَارَك بمشيئة قوّتهم كُلَّ سُلطةٍ على الأرض ومن عليها. لكنّهم يرفضون تصديقه، ويستمرُّ هُو بتقديم الأدلّة التي تدينه، وهُم يَخلقون بواسطة ماكينتهم البيروقراطية، كُلّ حجّج الكون لتفنيد أدّلته الدامغة ونَسفِ حقائقه الراسخة!

هل كان هدف دوتوري النهائي إثبات أنّه فوق مستوى الشبهات، بوصفه رجل سُلطة؟ أم أنّه عند نقطةٍ معيّنةٍ أصبحَ ضدّ النظام الذي يَستمدُّ منه سُلطَتَهُ الغاشمة وأراد بفعلته هذه توجيه ضربةٍ ضِدّه.. من داخله؟! وتلك النقطة هي لحظة تحقيقِه مع الطلبة اليساريين والفوضويين الذين تمّ اعتقالهم على إثر أعمال شغب، وبعضهم كان على صلة باحتجاجات مايو 1968 في فرنسا. هل أصابَ المُحقّق مَسٌّ ثوريّ، فأصبح عميلًا للثورة و”الفوضويين”، وأيقنَ أنَّ أفضل أداةٍ لهدم النظام قابعةٌ بين يديه؛ جريمته واعترافه باقترافها وبتلاعبه بالجميع؛ بالقانون والنظام والناس؟ أم لنذهب أبعد من ذلك ونزعم أنّه كان هكذا منذ البداية: مُدمّرًا للنظام من داخله، والمساهمة بتقويض دعائمه ونسف بُنيَتِه كان دافع جريمته؟!

تبدو هذه الفرضيّة أقل حظًا، خاصةً وأنّ هذا المُحقّق على قدرٍ عالٍ من الدناءة لا يسمح له بأنْ يعمل ضد النظام وأن يحاول الإيقاع ببيروقراطييه عبر التضحية بنفسه! لكن لا بدّ من طرحها وعدم استبعادها بشكلٍ كلّي. مع ملاحظة أنّ العمل فيه نَزعةٌ يختلط فيها المنطق بنقيضه والحقيقة الواضحة بالخيال المُشوّش والواقع الكابوسي بالأحلام الكابوسية، وهي بدورها -أيّ هذه النزعة- تدفعُ أكثر نحو عدم استبعاد هذه الفرضية نهائيًا.

لكن المُشكلة أنّ تلك الفرضية حتى لو كانت صحيحة، فَلَم تُحدِث أي فرقٍ في النهاية؛ فالسُلطة أصبحت أشدّ شراسة وحقيقة الجريمة ليست شيئًا مفيدًا بالنسبة لها. والمُهمّ سرديّتُها لهذه الجريمة -أي حقيقتها المفروضة بالقوّة- خاصةً وأنّ ضحيّتها لا قيمة لها ولن يأبَه لرحيلها أحد، كما تقول الضحيّة نفسها لدوتوري في إحدى خيالاته في نهاية الفيلم. وكأنّ إليو بيتري يتلو علينا عبر عمله هذا بيانًا مُناهِضًا للسُلطة لكنّه يائسٌ من جدوى مواجهتها، فيقول لنا لسانُ حالِه، وفي الخلفيّة تؤدّي موسيقى مزاجها عبثي، رقصةً على مسرح انتشاءاتنا السمعيّة، خَلقَ ألحانها الإيطالي الأعظم الراحل إينيو موريكوني: إنّ مسعى اليسار والأناركيّة وكلّ قوّة ثورية وتَحرُّريّة مصيرُه الفشل والخيبة والهزيمة، وإنّ السُلطة وإنْ بدا أنّها تَحمِلُ في طيَّاتِها بُذور هلاكِها؛ فإنّ خوازيقَهَا مُنتَصِبَة وحِبالُ مشانِقِهَا معقودة وأسلحتها مُدجّجة بالذخائر.. دومًا، ورِجالُهَا وُلِدوا ليكونوا فوق الناس، وفوق مستوى الشبهات.

كُتِبَ في 2 حزيران 2020*