مقدمة إلى الحرب (۱۹٤۲): بروباچندا عتيقة مُتجدّدة عن الصراع الأزَليّ بين الديمقراطيين الأحرار والمُستبدِّين الأشرار

«الحرب هي ترخيصٌ ممنوح شرعيًا لقتل أناسٍ لا نعرفهم، يتحوّلون فجأةً إلى طرائد يجب تعقّبها والقضاء عليها»

«في الدول الديمقراطية، يجب على الحرب أن تكون ديمقراطية»

صنع العدوّ أو كيف تقتلُ بضميرٍ مُرتاح – بيار كونيسا

عالمٌ حرٌ ديمقراطي وآخرٌ مستبدٌّ وسكّانه مستعبدون ومُذلّون. الأوّل تمثّله كرةٌ أرضيةٌ ناصعةُ البياض، والثاني: الكرة الأرضية ذاتها، لكنّ لونها شديد السواد ومنغمِسَةٌ في الظلام! هذه هي الرؤية الأميركية للعالم باختصار أو الرؤية المُعلَن عنها، من باب الدِقّة. وليس الحديث هُنا عن رؤية الرئيس الأميركي الأسبَق جورج دبليو بوش، رائد محوريّ الخير والشر، والتي كانت قريبةً في الشبه من رؤية ألدِّ أعدائِه أسامة بن لادن، رائد تقسيم العالم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما: الإيمان والكفر. وإنْ كانت هذه الرؤية التي ذُكرت في البدء، ونحنُ بصددِ الحديث عنها أكثر، لا تختلف كثيرًا عن رؤى بن لادن وبوش الابن.. لكنّها أقدمُ منها بكثير!

لماذا نُقاتِل؟

هذه الرؤية، والتي من البَدَهيّ القول أنّها اختزاليَة أو تسطيحية؛ إذ تَردُ كل مآزق البشرية وكافة ويلات الأرض إلى صراعٍ أزليٍ بين “الاستبداد” و”الديمقراطية”، يُقدّمها الفيلم الدعائي الحربي الأميركي “مقدّمة إلى الحرب” والذي هو فاتحةُ سلسةٍ مكوّنةٍ من سبعِ أفلامٍ دعائيةٍ حملت عنوان “لماذا نُقاتِل”، وكانت موجّهةً إلى الجنود الأميركيين وفيما بعد استهدفت عامة الناس لإقناعهم بضرورة القتال في حرب العالم الحرّ ممثلًا بمحور الحلفاء، ضد العالم المستبدّ الغارق في ظلام العبودية ممثلًا بدول المحور وعلى رأسها الأشرار الثلاثة: ألمانيا النازية وإيطالية الفاشية والإمبراطورية اليابانية. وقد أخرج السلسلة صانع الأفلام الأميركي من أصلٍ إيطالي فرانك كابرا، وقامت بإعدادها إدارة الحرب الأميركية.

اختزالٌ ممنهج.. أو العودة الدائمة إلى البروباچندا الأولى

 لكنّ هذه الرؤية الاختزالية ليس سطحيةً أو جاهلةً أبدًا؛ فصنّاع البروباچندا الأميركية لم يكن ينقصهم لا العلم أو الاطّلاع ولا الأدوات المعرفية المُحدّثة أولًا بأوّل ولا التقنية المتطوّرة، ولم يكونوا في النهايةِ حفنةً من السُذّج الخائفين على الإنسانية من شرور الاستبداد. بل هي نتيجة تسطيحٍ واختزالٍ مُمنهجٍ، يُستخدم في الدعاية منذ أن كانت تتّخذ أشكالًا بدائيةً، مثل هجاء العدو في النصوص الدينية ونعته بأقذع الصفات وتحميله مسؤولية كلّ فسادٍ على وجه الأرض، وردّ كل صراعٍ دُنيويٍ إلى صراعٍ أُخروي، صراعٌ مُبسّط، لا يصعب حتى على أصحاب أدنى نسبة ذكاءٍ فهمه: صراعٌ بين قوتين “الخير والشر، أو “الظلام والنور”.. أو في التعبير الديني الصريح: بين الإله الرحيم والشيطان الرجيم، وفي سياق الحرب العالمية الثانية: بين “رحمن الديمقراطية” و”شيطان الاستبداد”.

فكرة بسيطة هي كل ما تحتاجه لتبرير الحرب

كان لِزامًا على الأميركيين، أن يلجأوا لفكرةٍ بسيطةٍ لتبرير الحرب والاحتفاء بها ولقتل العدوّ دون الشعور بأي وخزِ ضمير: العدو شرير، شيطان! إنه مُستبدٌ، مجرمُ دموي، مصابٌ بجنون العظمة. وهو يكره الديمقراطية والتي هي نمط عيشنا وهُويّتنا، ويمقت الأحرار الذي لا يحصرهم الفيلم في حدود الغرب كما هو متوقّع، بل يذكر أنّ منهم النبي محمّد وموسى والمسيح وكونفوشيوس! إذًا هي حرب الإنسانية جمعاء ضد “استبداد الثالوث الشمولي” ومعركة حياتها أو موتها، حربُ نهاية الكون للحيلولة دون أن يُنهي الأشرار بغطرستهم وفسادهم واستبدادهم هذا الكون.

دغدغة العواطف الدينية تكنيك دعائي فعّال دومًا

وكأيّ عملٍ دعائي، يُدغدغ “مقدّمة إلى الحرب” عواطف جمهوره المستهدف، ويلعب بأصابعه الغليظة على الوتر الديني
الحسّاس، فأدولف هتلر يشنّ حربًا على الربّ وينصّب نفسه مكانه حين يزيل الصُلبان عن الكنائس ويضع مكانها رايات الصليب المعقوف. ويستفزّ المشاعر الدينية حين يقول إنّ النازية تخيّر كل ألماني بين الربّ والفوهرر، وكذلك يفعل الامبراطور الياباني الذي نصّب نفسه إلهًا ويعبده الشعب الياباني، ويستنكر الفيلم هذا “الحكم الطاغوتي”!
واللعب هذه الأوتار الدينية الحسّاسة لن ينتهي تفضيلها بالنسبة لصانع الدعاية الحربيّة الأميركية مع تقادم الزمن أبدًا؛ حيث سيستعملها فيما بعد مع السوڤيتي الذي سيصبح عدوًا غاشمًا، شموليًا مستبدًا ومُهدّدًا للديمقراطية ولطريقة العيش الأميركية الفريدة. وسيلجأ إليها مع أعداءٍ آخرين يَحترفون أيضًا اللعب على هذه الأوتار ويبرعون في دغدغة العواطف الدينية للجماهير على نحوٍ مُميت!

أعداؤنا وحدهم يقترفون الشرور

حتى لو كان العدوّ شيطانًا فعلًا، فإنّ الدعاية ضدّه تستوجَبُ شيطنته أكثر وإضفاء بعدٍ ميتافيزيقي عليه، يجعله خارج التاريخ والزمان، لتصبح أفعاله منفصلةً عن أصلها البشري، فيبدو أقرب إلى شيطانٍ أو مخلوقٍ شريرٍ جاء من بُعدٍ آخر، يفعل كل ما هو قذر ومكروه، لأنّه ليس مثلنا، لأنّ تلك طبيعته. فالاشتراكيون الوطنيون والفاشيون واليابانيون، يرتكبون فظائع لا يفعلها أحد غيرهم؛ يُنكّلون بمعارضيهم، يعذّبونهم ويغتالونهم، ويرسلون ملائكة الموت الخاصة بهم إلى كل بقاع الأرض، ويستعبدون شعوبهم، ويحرمون الأطفال من طفولتهم، فيأخذونهم عنوةً إلى ساحات الحرب، أو يُزيّفون وعيهم في المدارس ويُجبرونهم على الهتاف بحياة القائد المفدّى.. وهذه كما يعلم الجميع وبالطبع وبلا شك، ممارساتٌ لا تحدث إلّا داخل حدود هذا الثالوث الشيطاني!

 أما دول العالم الحرّ، الأمس واليوم، فلا تقترف هذه الشرور أبدًا، ولا توجد دولٌ حليفةٌ للولايات المتحدة في “الشرق الأوسط” فعلت وتفعل ما كان يفعله النازيون لكن على نحوٍ ناعمٍ وباستخدام تقنياتٍ حديثة وحتى بمساعدة نازيين سابقين! ومع ذلك تعتبر صانعةً للسلام وجالبةً للعدالة وإحدى أعمدة العالم الحر. ولا مكان لدولٍ كهذه في هذا العالم، الذي لا تهمّه أي مصالح ضيّقة، والإنسان دومًا أولويّته، والديمقراطية منهاجه، ودومًا يقف ضد الُمستبدّين والطغاة طالما أنّهم من المعسكر الآخر.

بروباچندا ضد بروباچندا.. أو النصر المظفّر للجماليات النازية

يستعير فرانك كابرا مقاطع من فيلم بروباچندا آخر، أقدم بسبع سنوات، من إنتاج أحد أضلاع مثلّث الشر “النازيون”، وهو الفيلم الوثائقي “انتصار الإرادة”، الذي أخرجته صانعة الأفلام المؤيّدة للنازية ليني ريفنستال. وتبدو هذه الإحالة لـ”انتصار الإرادة”، وكأنّها تقول: “إنّنا ننفاسكم بقوّة في صناعة البروباچندا الحربيّة!”. لكن هل كانت منافسة قويّةً فعلًا؟

إنْ كان لا بد من عقدِ مقارنةٍ سريعة، فإنّ “انتصار الإرادة” يفوز بقوّةٍ في هذه المنافسة، ويتنزع نصره في الحرب الدعائية بسلاسة. لا لأن غايته النهائية كانت أنبل أو أسمى بالطبع، بل لأن فيه عناصر فنيّة وجمالية غابت عن “مقدّمة إلى الحرب”، الذي بدا مباشرًا على نحوٍ مُضجِر وتقنيًا لأبعد حدّ وخاليًا من أيّ بعدٍ جمالي، ومبتذلًا في تقديمه لرسالته المختصرة في “عالم حر ديمقراطي ضد عالم مستبد شرير” والتي تكاد تتكرّر في كل دقيقةٍ من الفيلم. هذا البعد الجمالي  -إن جاز هذا التعبير- يتمظهر في المسيرات العسكرية المهندَسَةِ على نحوٍ بديع، وفي تناسق الأعلام النازية لتشكّل لوحةً فنيةً تنجحُ في لفت الأبصار إليها، وفي صرامة وانضباط كبار قيادي الرايخ الثالث وبلاغة خطاباتهم واستعراضية الفوهرر التي حوّلها سحر ريفنستال في الخلق والإبداع، إلى جاذبيةٍ من الصعب على الجماهير الباحثة عن قائدٍ مُخلّص -ووجدته أخيرًا- أن تقول لها: لا.


وهذا البُعد الجمالي لم يكن محصورًا في صناعة الدعاية الألمانية، بل كان حاضرًا تقريبًا في كل مناحي الحياة الألمانية، في الصناعة والموسيقى والفلسفة والفكر.. وفي القتل والإبادة كذلك! وما كانت تقترفه النازية من جرائم على نحوٍ فنيٍ وجمالي -وذلك لا يُغيّر شيئًا من حقيقة أنّها جرائم- ربّما تعبّر عنه إحدى شخصيات فيلم “الحبل” (١٩٤٨) لألفريد هيتشكوك، حيث تقول شخصية الشاب براندون: “القتل يُعدُّ فنًا؛ فالمقدرة على القتل قد تكون مشبعةً تمامًا كالمقدرة على الخلق والإبداع!”. وربما هذه حقيقةٌ من الصعب إنكارها، أنّ النظام النازي نجح في صناعة خليطٍ من الإبادة والإرهاب، وتقديمه إلى العالم بقالبٍ أنيقٍ وجذّاب.

٨٠ عامًا ولم يتغيّر الكثير

على مدار ٥٢ دقيقة تقريبًا، لا يملّ “مقدمة إلى الحرب” من عقد المقارنات بين العالم الحر والعالم المستبدّ، ولا يكفّ عن امتداح ديمقراطية الأوّل والحزنّ على سكان الثاني، لأنّ هذه الحبّة السحرية المسماة “ديمقراطية” غير متوفّرة في بلادهم. ويصرُّ على استبعاد أيّ أبعادٍ أخرى للصراع، ويحصرها أو يحشرها في ثنائية “الحرية – الاستبداد”، ويبدو هذا مفهومًا تمامًا في سياق عملٍ دعائيٍ تعبويٍ موجهٍ للجنود وثم لعامة الناس في ذلك الزمان. لكنّ الأمر أكبر من ذلك وأعقد، هو نهجٌ قديمٌ متّبعٌ في إبراز بعدٍ واحدٍ لأيّ صراع، وإخفاء أبعاده الأخرى الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية والعسكرية، لإقناع الناس بأنّ الأمر في غاية البساطة، وليس للسيطرة ورأس المال علاقةٌ أبدًا به، وبأنّ على جميع الديمقراطيين الأحرار في كل بقاع الأرض أن يهبّوا هبّة رجلٍ واحدٍ لقتال المستبدّين الأوغاد.

 وقد تكرّر هذا الخطاب بعد ٦٠ سنةً من صدور هذا العمل، أي عام ٢٠٠٢، لتبرير غزو أفغانستان، ومن بعدها العراق.. وما زال يستخدم مع تعديلاتٍ بسيطة وتحديثاتٍ طفيفة كلّما علم حرّاس الحريّة وشرطة الديمقراطية وحلفاؤهم (الذين لا يكتفون اليوم بالقيام ببضعة مهامٍ صغيرة هنا أو هناك بل يقومون بدوره كاملًا ويتركونه ليستريح على عرش العالم) أنّ هناك مستبدًا في بلدٍ ما في “الشرق الأوسط” وما حوله، يمكن تحقيق مكاسب من شنّ حربٍ عليه أو إشعال فتيل حربٍ أهلية في بلده، سواء سقطَ هذا “المُستبدّ” أو بقي مكانه وصار أقوى.. فذلك غير مهم، المهم انتصاراتنا من أجل الحرية التي تعرضها وسائل الإعلام، ومكاسبنا على أرض الواقع التي لا يعلمها إلّا الراسخون في فنّ الحرب ومهندسو البروباچندا.

٨٠ عامًا مضت على صدور الفيلم، العالم تغيّر كثيرًا وهو اليوم في طريقه لولوج مرحلةٍ تغييرٍ أشدّ تعقيدًا وشموليةً ورعبًا، لكن يبدو أن القليل من التغيير طرأ على خطاب البروباچندا المتمحور حول محاور الخير والشر والديمقراطية والاستبداد، أو ربّما ليس ثمّة داعٍ لإحداث تغييراتٍ كثيرة أو كبيرة، ما دامت الحجج والذرائع نفسها تنجح في تحقيق الهدف كلّ مرّة.

*كُتِب في 28 أيلول 2020