المنارة: عن عواقِب المعرفة بلا حدود

«هناك الكثير ممّا لا أريد نهائيًا وقطعًا أن أعرفه.. إنَّ الحكمة تضعُ حدودًا للمعرفة أيضًا».

فريدريك نيتشه – غسق الأوثان

تُذكّر مُطارَدة توماس وايك (ويليم دافو) لتوماس هوارد (روبرت باتنسون) بالفأس، في فيلم المنارة (2019)، بمُطارَدة جاك تورانس لعائلته في بريق ستانلي كوبريك. وليس هذا المشهد الشيء الوحيد الذي يُحيلنا إلى “البريق”، كذلك الرؤى والكوابيس التي تُطارد هوارد، والأهم الإقامة في مكانٍ يُهيمن عليه الغموض ويستعمره رعب مجهول، أو تسكنه لعنةٌ أصابت مقيمًا سابقًا، والتحوّل التصاعُدي في شخصيتي الفيلم الوحيدتين صوب الجنون.

وتُحيلنا نوراس منارة الأميركي ذي السابعة والثلاثين عامًا، روبرت إيغرز، إلى طيور الإنكليزي ألفريد هيتشكوك؛ ففي العملين ثمّة رعبٌ ما ورائي، حيث تتصرّف الطيور والنوارس على نحوٍ لا يمكن فهمه بالعقل أو تفسيره بالعلم -في “الطيور” تُحاول إحدى العالمات تفسير الظاهرة بأدوات العلم وتفشَل!- ممّا يُعطي إحساسًا بأنّ هذه المخلوقات الطائِرة تتخبّطها الشياطين من المسّ أو تتلبّسُها أرواحٌ شريرة أو هي نتاجٌ لمؤامرةٍ مُعقَّدةٍ يستحيلُ فهمها بأدوات العلم والمعرفة، لأن مصدرها خارجي/غير بشري.

البدء في الإحالة لهذين الفيلمين كان لا بد منه، للتأكيد على غموض “المنارة”، وبالتالي استحالة الخروج بتحليلٍ واحد أو حقيقةٍ واحدة، وأفترض أن أي عملٍ سينمائي أو فنيٍ وإبداعيٍ بشكلٍ عام يقدّم حقيقةً بكل وضوح، هو عملٌ قاصرٌ، مُناسِبٌ لمُخاطَبة أي حيوان، إلا ذاك الناطِق! إذاً في هذا العمل ليس هناك حقائق، فقط تأويلات -كما يقول نيتشه-.

يقوم العمل على الصراع بين قوّتين، ممثّلتين في شخصيتي حارِسَي المنارة، وربما لذلك جاء مصورًا بالأسود والأبيض، للتأكيد على ثيمة الصراع والتضاد بين قوّتين. في البدء يبدو مجرّد صراعٍ بين الحارس المُشرِف (مدير العمل) والحارس (العامل)، الأوّل يُمثّل الجيل القديم؛ العجوز المُتحَاذِق، والثاني يُمثّل الشاب القوي النابض بالحيويّة والقوّة البدنيّة، المُستعبَد من قبل من هو أعلى منه. قد تعتقد أنّه “صراع طبقي” بين عاملٍ مُستَغَلٍ ومُستَلَب، وبين رئيس العمل المُستَبِد، أو بين نمطي حياة متنافرين لا يمكن أن يلتقيا، أو ببساطة بين جيلين. لكن الأجواء الغامضة والأحداث التي تأخذ منحى ما ورائي، تقطع الطريق أمام أي محاولةٍ لتأويل الصراع على هذا النحو المادي/الواقعي.

ومع انغماس “توماس وتوماس” في شرب الكحول والرقص والتحاور والتجادل والاقتتال وانزلاقهما إلى الجنون، بالتزامن مع إسقاط كافة أشكال الرسمية والهرمية في العلاقة بينهما -حتى أنّها أوشكت على أخذ شكلٍ عاطفي/جنسي!- يبدو الأمر أقرب إلى صراعٍ بين رجلٍ كبيرٍ وحكيمٍ يعرف كل شيء/أو الكثير، لكنّه لا يقول كل شيء، وبين شابٍ يملك قوةّ وعافية الشباب، لكنّه لا يعرف شيئًا، ليس حكيمًا ولا ذكيًا -لكنه يخالُ نفسه كذلك- ويريد معرفة -والظفر- بكل شيء.. المال، والنساء والسلطة، والمنارة بما تمثّله من قوةٍ غير محدودة لا يدرك عواقبها لأنّ محدوديّته تمنعه من ذلك؛ يريد أن ينخرط فيما هو أكبر منه، دون أن يعرِف قدْرَهُ وحجمه الحقيقي، يريد سبر أغوار الحقيقة دون أن يسأل نفسه: هل بإمكاني حقًا إطاقة الحقيقة؟

هذا الصراع لا يقف عند حدود الاختلاف بين رجلٍ حكيم وآخرٍ أرعن. ويمكن الذهاب بعيدًا جدًا والزعم أنه بين قوّتين كونيتين، وعند هذه النقطة يبدو من المنطقي القول إنّه يُحيلنا إلى قصة شجرة معرفة الخير والشرّ وهبوط آدم من الجنّة في سفر التكوين في العهد القديم، وإلى نسختها الإسلامية في القرآن، لكن من دون وجود أحد أبطال الحكاية الرئيسيين وأهمّ مُحرّكٍ للحدث فيها.. “الشيطان”، أو ربما كان موجودًا فعلًا، مُحرّكًا لكل شيء، ذلك “المتمرّد الأبدي وأوّل مفكّرٍ حُر ومُحرِّر العوالم” -كما وصفه بحماس، الأناركي الروسي ميخائيل باكونين في “الله والدولة”– لكن بشكلٍ خفي، مُوسوِسًا لتوماس هوارد (الإنسان)، ومُحرِّضًا إياه على التمرّد على توماس وايك والكشف عن أسرار المنارة وتحرير ذلك العالم الذي يسيطر عليه ذلك العجوز المُتَعجرِف، مُدّعي الحكمة وصاحب القصص الغريبة.. أو ببساطة (الإله).

لكنه صِراعٌ أكبر وأعقد من أن يُقال إنه سردٌ بأسلوبٍ رمزي للقصة التوراتية/القرآنية، ولسنا أمام تجسيدٍ سينمائي لرواية الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ “أولاد حارتنا”، وإن كان هناك تشابهٌ كبيرٌ بين العملين، خاصةً في شخصية “عرفة” ومحاولته كشف سر وصيّة وقْف “الجبلاوي” ومحاولة توماس هوارد كشف سرّ المنارة وفشل كليهما. لكن “منارة إيغرز” لا تشارك “حارة محفوظ” تفاؤلها واحتفاءها بـ”عَرَفة” بما يرمز إليه من علمٍ ومعرفة!

هكذا أتخيَّلُ جبلاوي.. إنّه فعلًا أفضل تجسيدٍ له!

منارة إيغرز، أشبهُ ببيانٍ ضدّ المعرفة أو ضد المبالغة في الاحتفاء بها وإجلالها وصناعة دينٍ جديدٍ منها، وهذا البيان يُحذِّرُ من العواقب غير الحميدة للامحدوديتها، موافقًا نيتشه أنّ هناك حدودًا للمعرفة تضعها الحكمة، حدودٌ ضرورية تفرضها حدود العقل البشري، ولأنّ معرفة -وإخبار- الحقيقة ليست دائمًا عملًا ثوريًا أو مفيدًا أو نافعًا للفرد وللناس. والحقيقة -بوصفها المعرفة الكاملة- لن تجعل الإنسان حُرًا -كما قال يسوع مُخاطبًا اليهود في إنجيل يوحنا- بل قد تزيد من بؤسه وتعاسته أو قد تقتله ببساطة.

سألجأ مرةً أخيرةً إلى الإحالة لفيلم، لما فيه من تشابهٍ مع نهاية المنارة؛ وهو الفيلم الأسود* “قبَّلني بإفراط” الذي أخرجه الأميركي روبرت ألدريتش عام 1955، حيث يدور في ختامه حوارٌ بين الفتاة المُحتالة (غابرييل) وزعيمها (د.سوبرين) حولَ صندوقٍ غامض، تصرُ غابرييل على أن تعرف محتواه وتراه، لكنَّ زعيمها يرفض إلحاحها، ويحذّرُها من مغبَّة محاولة فتحه:

-أخبِرني ما الذي في الصندوق؟

*يجب أن نسمّيكِ باندورا، فقد انتابها الفضول حول صندوق وفتحته… فأطلقت كل الشر في الأرض!

-أريد أن أعرف ما هو وحسب؟

*هل ستصدقينني إن أخبرتكِ؟ هل سترضين؟.. رأسُ ميدوسا، هذا ما يحتويه الصندوق، لكن من ينظر إليه لا يتحول لحجارة، بل إلى كبريتٍ ورماد! لكن طبعًا لن تصدقينني، تريدين أن تري بنفسك!

لا تأخذ غابرييل كلامه على محمَل الجد، فتقتلُه، طمعًا في ما تظن أنها ثروة يحتويها الصندوق. وأثناء لفظه أنفاسه الأخيرة، ينهاها عن فتحِه .. لكنَّها تتجاهل تحذيره تحتَ وطأة شهوة المعرفة، واعتقادها الساذج بقدرتها على تحمُّل مواجهة المجهول، فتفتحه بالكامل، لتخرج منه مادة مُشعَّة فتحرِقُها وتُسبِّبُ انفجارًا ضخمًا في المنزل الذي كانت فيه.

ليس ثمّة فرقٌ كبير بين عقبات فتح غابرييل للصندوق وعقبات استكشاف توماس هوارد لما يوجد في المنارة، كلاهما حاول معرفة ما لا يجب معرفته وما لا يقدران على إدراكه لمحدوديتهما (أو محدودية العقل البشري)، كلاهما لم يُدركا أن المعرفة لها حدود، وتجاوزها والتعدّي عليها والنفاذ إلى عالمٍ لا يمكن لطبيعتهما تحمّله، يُلقي بالمرء إلى التهلكة؛ فالمعرفة ليست دائمًا قوّة، ربما تكون جنونًا أو فناءً.

لكن الحدود في الفيلم، محصورةٌ في المعرفة فقط؛ فلا حدود لإبداع إيغرز، وهو يعيد إنتاج ما يشبه إحدى الأساطير القديمة في قالبٍ سينمائي مليءٍ باللذّة البصرية والرعب غير التقليدي؛ ذلك النوع من الرعب الشهي الذي يُمتّعنا ونطلب المزيد منه طالما أنّه يصيب غيرنا، ونشعر/أو نتوهّم في حضرته، أننا نتحكّم بأبطال العمل ونتنبّأ بمصائرهم ونكاد أن نُحذّرهم مما ينتظرهم في النهاية؛ فنحن نعرف كيف ستنتهي الأمور إلى حدٍ كبير، لكن الأهم.. بأي طريقةٍ فظيعةٍ سيحدث ذلك؟ وماذا سيقع قبله؟ وكيف سيكون شكل الطريق المفضي إلى النهاية؟

ٌولا حدود لخيال توماس هوارد (كالخيال البشري الذي يذهب بعيدًا جدًا إلى أقصى المناطق، متجاوزًا أيّة حدود يمكن أن تفرضها سلطة بالقوةّ المادية والمعنوية. لكنّ المفارقة أنّ هذا الخيال في كثيرٍ من الأحيان يخلق وثنًا جديدًا ويفرض بموجبه سلطًةً أشدّ طغيانًا تستعبد البشر وفي حالاتٍ متطرفة ومجنونة تقتلهم!). وليست هناك حدودٌ للجنون الذي تفرضه إقامة شخصين متناقضين في مكانٍ يحرسه الغموض ويسكنه الرعب والهلاوس، أو للكوابيس التي تُحفّزها قوةً ما خفيّة تسعى لخلق كابوسٍ واقعي وتنجح في ذلك، أو للحوارات التي تتّقِد نارها بزجاجات وبراميل الكحول التي تُشرَب بلا حدود، والتي -وللمفارقة- كانت تُؤخِّر قذف البطلين إلى الجنون والهلاك.. أو ربما عجّلت به!

*هامش:

هنا تجدر الإشارة إلى التأثّر الواضح بالفيلم الأسود، من حيث تضمّن “المنارة” عناصر رئيسية من عالمه؛ منها المرأة الفاتنة/اللعوب Femme fatale (حورية البحر في هذا الفيلم)، وإن كان حضورها معنويًا أو روحانيًا، لكن ذلك لا ينفي أنّها بظهورها في خيالات وهلاوس توماس هوارد تلاعبت به وأغوته ليمضي قدمًا في مسعاه الخائب ومخططه الفاشل لاكتشاف سرّ المنارة.. ولقاء حتفِه!