بين بازوليني وبيسوا: في السلطة فقط تَكمُن الفوضويّة الحقيقيّة

“أيّها السادة، نحنُ الفاشيّون، الفوضويّون الحقيقيّون الوحيدون!”

قد يبدو التناقُض صَارِخًا في الاقتباس أعلاه، والذي جاء على لسان “الدوق” أحد الفاشيين الأربعة في فيلم الإيطالي بيير باولو بازولينيسالو أو أيام سادوم المائة والعشرون” (1975)؛ فالفوضوي/اللاسُلطَوي، وكما يَفترِض الاسم بداهةً: هو مُعادٍ للسُلطة أيًا كانَ شكلُها ورافضٌ لأيّ أيديولوجيا تُنتِجها أو تُعيد إنتاجها على هيئة أنساقٍ تَزعُم أنّها تَحرّرية، تُمكّن الإنسان من استعباد جموع البشر تحت مظلّة راياتٍ ثورية وشعاراتٍ برّاقة تَعِدُ الناس بغدٍ أجمل (بِصدَد هذه الجزئية يُمكن مراجعة كتابي “الإله والدولة” و”السلطة والحرية” للفوضوي الروسي ميخائيل باكونين).

لكن، ماذا لو كانت روح الفوضويّة الحقّة مُتمثّلةً في السلطة؟ في أن تكون أنتَ في موقعها وعلى رأسها ومُمسكًا بزمام قوّتها، ولا سُلطان لأحدٍ عليك إلّا أنت، وتفعل ما تُريد وما يحلو لك. وفي هذه الحريّة المطلقة لفعل كل المُمكِن، يَتمظهَر التَحقُّق المثالي للفوضويّة؛ فأنتَ لاسُلطوي تَرفُض سُلطة أيّ أحد/كيان/فكرة عليك! وبعد هذا الإقرار والتصالُح مع الذات، تُمارِس تَسلُّطك على الآخرين وتفعل بهم ما تشاء وتلهو بحياواتهم وتُعَربِد بأجسادهم وتُقامِر بأوراحهم كما يحلو لك!

من كان شاهدًا على عشاء بازوليني الأخير، الذي أُقيم في صالات الجمهورية الإيطالية الدُمية المتحكّم بها من قبل ألمانيا النازية “سالو”، سيفهم تمامًا مقصد الدوق -الذي يُكمِل مُؤكّدًا “أنّ الفوضويّة الحقيقية الوحيدة تكمن في امتلاك السُلطة”- وسيرى بعينيه الممارسة العمليّة لهذا التنظير على يد الدوق ورفاقه “الفوضويين الحقيقيين” الذين يُكثرون من التَفلسُف واقتباس فلاسفة وشعراء من طراز نيتشه وبودلير، أثناء ممارستهم أنشطة عنف وإذلال وإهانة وخلاعة وعربدة على طريقة الماركيز دو ساد، على مجموعةٍ من لحمٍ بشري خاضِع يختبرون بواسطته لا محدوديّة هذه اللاسُلطويّة على الذات – السُلطويّة على الآخر.

أنْ يكونَ المرء في السلطة -وبالتالي وبالضرورة سُلطويًا- يعني أنّ الحرية المُطلقة التي يطمح الفوضويون إليها هي الآن ملك يديه، مُمثلّةً بحريّة أن يستبدّ وهو المُعادي الحقيقي والوحيد لاستبداد السُلطة. وإن فشلت كثيرٌ من التجارب الفوضويّة، أو بقي معظمها عالقًا في عالم المُثُل، فتجربة “فوضوية السلطة” -التعبير لبازوليني نفسه- تنجح دوماً، وينطلق السُلطوي ذلك الفوضوي الحقيقي بفكره ونظرياته بسرعةٍ صاروخيةٍ من أرض الأفكار والمُثاليات إلى فضاء العالم المادي، صَوبَ الواقع الذي كل شيء فيه مُمكِن، حيث لا سيّد إلّا السُلطوي، والكل عبيدٌ له.

بيير باولو بازوليني، من الفيلم الوثائقي “بازوليني جارنا” (2006)

مصرفي.. وفوضوي؟!

قصّة المصرفي الفوضوي – فرناندو بيسوا

لنقطع هُنا تذكرة سفر، حاملين معنا شيئًا واحدًا هو الفوضويّة. ولننطلق من إيطاليا بازوليني إلى برتغال فرناندو بيسوا، لنؤدّي زيارةً خاطفةً إلى إحدى وجهاته القصصيَّة القصيرة: “المصرفي الفوضوي”. يُلاحَظ للوهلة الأولى ومن العنوان مَعلمٌ بارزٌ: التناقض الصارخ -كما في عبارة دوق بازوليني- لكنه (إنذار بحرق الأحداث!) ليس تناقضًا بالفعل، فهناك فوضويات/أناركيات كثيرة، إحداها الفوضويّة الرأسمالية Anarcho-Capitalism، التي يمكن للمرء في ظلّها أن يكون مصرفيًا وفوضويًا دون أيّ تَعارُض.

عَلمُ اللاسُلطويّة الرأسمالية

القصّة التي هي عبارة عن حوارٍ بين شخصين أحدهما فوضوي ووظيفته مصرفي، لا تتناول سلطة الدولة أو السلطة السياسية، بل سلطة المال وأيضًا سلطة الفرد/الأنا. وبناءً على ذلك يمكن القول أنّها حمّالةٌ لمضامين فوضوية رأسمالية، وأُخرى فوضوية أنانية تتمثّلُ في شخصية المصرفي الذي يَنعتُ الدولة والعائلة والدين والمال بـ“الأوهام الاجتماعية”. وهُنا يبدو وكأنّ بيسوا متأثّرٌ بالفوضوي الأناني الألماني ماكس شتيرنر أو يحيلنا إلى فلسفته التي ترفض كل هذه المؤسسات؛ حيث يصفها شتيرنر في عمله “الأنا وملكيّتها” بـ”الأشباح” (Spooks) التي تتطايَر أمام سُلطة الأنانية. لكن شتيرنر لا يكتفي بالمؤسّسات التي ذُكِرَت في قصة بيسوا؛ فلائحته للأشباح تتضمّن: الأخلاق، الخير العام، القانون، المجتمع، الحب، الحقوق الطبيعية، الحقيقة والإله نفسه… وتطول قائمة الكيانات الشبحيّة التي يرفض منظّر الفوضويّة الأنانيّة نفوذها على الإنسان.

من سياق القصّة والحديث المطوّل لذلك المصرفي الذي كان فوضويًا -وما زال- أثناء تدخينه السيجار، نفهم أنّه كان فوضويًا جماعيًا/اجتماعيًا قبل أن ينتابُه الكفر، فيرتدّ إلى فوضويٍ فردي وأناني، رافض للاستبداد الجديد، الذي يُدمّر استبداد الأوهام الاجتماعية أو الأشباح -بتعبير شتيرنر- ليؤسس محلّه استبدادًا اجتماعيًا أكثر رداءة، أو استبداد المعاونة -كما يسمّيه المصرفي- ويُؤمن بأنّ الطريقة الفوضويّة الوحيدة هي أن يحرّر المرء نفسه، ويؤدّي واجبه نحو نفسه والحريّة في آنٍ واحد، ولكن كيف؟

ماكس شتيرنر

هذا الفوضوي الفردي/الأناني، وجدَ طريقةً لمحاربة أشرس الأوهام الاجتماعية وأعظم السلطات: سلطة المال، بأن يحصل على المال! ولا يكتفي بذلك، فيحصل عليه بكميات كافية لكي لا يشعر بتأثيره، وكلّما زادت الكميات التي سَيجنيها كلما كان تحرُّره من تأثير سلطة المال أكثر. ليدخل فيما بعد في “فوضويّته التجارية والبنكية” وهُنا تتشكّل فوضويةٌ أُخرى هي الفوضويّة الرأسمالية.

وليس هذا المصرفي بعيدًا كثيرًا عن فوضويي بازوليني الفاشيين؛ فهو الفوضوي الحقيقي الوحيد وسط فوضويي عصره، الذين لا يتحرّرون أبدًا وهم يقاتلون الرأسماليين عوضًا عن الذهاب مباشرةً إلى رأس الأفعى وقتال رأس المال، بل يَخلقون بتعاونهم واشتراكيتهم وعنفهم “الغبي” -كما يصفه- استبداداتٍ جديدة أشدّ عنفًا من تلك القائمة ويصبحون خاضعين لسلطتها. أمّا هو فعثرَ على الفوضويّة الحقّة في سلطة المال وسُلطويّة رأس المال. تلك السلطة لا تُحارَب بالهروب منها أو السمو عليها، بل بامتلاكها وبإرادة المزيد منه، لينعم الفوضوي الحقيقي بحريةٍ لا تعرف حدودًا، بحرية السوق الحرّة! وليفعل ما يحلو له وقد أخضع وهم المال.. بالاغتناء (ألا يُذكّر هذا الكلام بشخصية مستطاع الطعزي في فيلم البيضة والحجر 1990؟) ولنقُم بإعادة صياغة جملة دوق “سالو” لكن على لسان هذا المصرفي: نحنُ الرأسماليون، الفوضويون الوحيدون الحقيقيون.

تبدو قصّة “المصرفي البنكي” بيانًا مُؤازرًا للأنساق الفوضويّة الفردية/الأنانية وتلك الرأسمالية، أكثر من كونها قصّةً بالمعنى التقليدي؛ حيث تتجلّى فيها السخرية من مُثُل الفوضويين الذين يعملون بشكلٍ تعاوني من أجل المجتمع ويهمّهم الخير العام. ويُنهي بيسوا بيانه المظفّر حول فوضوية سُلطة المال المُتنكّر بزيّ قصة، بعبارةٍ على لسان المصرفي:

“إنهم فوضويون نظريون، وأنا فوضوي على مستوى النظرية والممارسة. هم فوضويون مثاليون وأنا علميّ.. باختصار إنهم فوضويون مزيّفون وأنا الفوضوي الحقيقي.”

إن استحضار موضوع فوضوية السلطة، أمرٌ راهن مع تواصل صعود “الفاشيين” على اختلاف أعراقهم وقومياتهم ولغاتهم ورموزهم ونعومتهم وخشونتهم و”ألوانهم ” في كل مكان؛ حيث هؤلاء “الفاشيون” هم الفوضويون الحقيقيون، الذين يحكمون الجماهير التي تريدهم في أغلب الأوقات، بوصفهم ترياقًا لفاشياتٍ أخرى، لتؤسّس معهم استبدادًا جديدًا في “عصر التطرّفات” هذا. وهُم بعكس شتيرنر لا يمقتون الأشباح، بل يَهيمون بها حُبًّا ويُؤسّسون فوضى سلطتهم عليها وإن لم تُوجد هذه الأشباح فهُم مستعدّون لخلقها من العدم.

لكن، هذه “الفاشيات” على تنوّعها وبكلّ عنفها اللاعقلاني يُمكن تفهّم صعودها المتواصِل، كضريبةٍ طبيعية لعصرنا، عصر “ما بعد السياسة” -كما يسميّه سلاڤوي چيچيك– الذي يرى في كتابه مرحبًا في صحراء الواقع، (ترجمة أحمد حسّان)، أنّ هذا العصر الذي نعيشه اليوم يتم فيه بشكلٍ مضطّرد استبدال السياسة بالمعنى المحدّد، بالإدارة الاجتماعية الخبيرة، ليكون المصدر المشروع الوحيد الباقي للنزاعات هو التوتّر الثقافي بأشكاله العرقية والدينية.

يبدو أنّ كل واحدٍ منّا في أعماقه هذا الفوضوي الحقيقي، الذي يعرف أنّ لاسُلطويّته الفعليّة في ممارسة حريّته عبر استبداده بالآخر. وفي الوقت نفسه، في كل واحدٍ منا تلك الذات التي تكون موضوعًا لاستبداد الآخر السُلطوي. ويبدو أنّنا بعكس ما ذهب إليه ألبير كامو: كلّنا ضحايا.. وكلّنا جلادون. المهم، أنتَ من تختار أن تكون؟ أو هل بيدك الخيار.. حقًا؟!