
كان راضي السترة مُواطنًا صالحًا، مُلتزمًا بالأنظمة ومُطيعًا للقوانين، مُحِبًّا لوطنِه: بلاد السَفَرجَل. ويروي كثيرون مِمّن عاصروه أنّه اعتادَ ممارسة رياضة المشي بجانب الحائط وقول: يا رب السترة. وتَزعُم إحدى المرويّات حول أصل اسم عائلته، أنّ جدّه الذي كان يُلقّب بـ”الحيط” -لأنّ طوله كان يقارب المترين ونصف- غيّر اسم العائلة من “النمرود” إلى السترة، بعد أن نَزَحَ من حَيِّه الذي نشأ وترعرع فيه، إثر سيطرة العصابات المسلّحة عليه وعدم قيامه بأيّ رد فعل ورفعه الراية البيضاء منذ أوّل “كَفّ” تلقّاه، بعد أن ألقى على مَسامِع أبناء حيّه عشرات الخُطَب المُشتعِلةُ بأدرينالين الحماس الثوري والمحقونة بمُنشِّطات الشغف النِضالي، والتي تتوعّد العدوّ بالويل والثُّبور وتتعهّد بإخراجه من الديار مذءُومًا مدحورًا.
حياة راضي لم تكن مثيرةً أبدًا، بل كانت على النقيض تمامًا: تختنقُ غرقًا في الرتابة، حتّى أنّ وصف “عادية” يُضفي عليها رشَّةً من بهارات الإثارة. حياةٌ مُضجِرةٌ حَدّ الموت، لا يَحدُث فيها شيء ولا عائلة فيها ولا صديق ولا حبيبة إلّا الفراغ. ولم يكُن مُهتمًا بأي شؤونٍ خارجية أو داخلية -ربما فقط نظافة ملابسه الداخلية- ولم يُعرف عنه تدخين السجائر أو شرب الخمر أو السَّهَر والسَّمَر. وقد اعتاد على النوم عند التاسعة ليستيقظ باكرًا ويتواجد على رأس عمله في تمام السابعة ليُثبت لمُدَرائه أنّه عاشقٌ للإنجار ومُدرٌّ للأرباح ومُلتَزمٌ بدَحرَجَة عجلة الإنتاج، كما كان سيزيف مُلتَزِمًا بِدَحرَجَة صخرته. باختصار: كانت حياةً تَليقُ بشخصٍ يَسير بجانب الحائط ويبتغي السترة!
أَحبَّ راضي عمله المُمِلّ كمُحرِّرٍ ومُدقّقٍ لُغوي وكان يَجِدُ فيه متعةً ولذّة؛ فينتشي عند حذف أو إضافة همزة قطع ويبلغ ذُروةً -لم يختبر بلوغها يومًا- عند حذف حرف العلّة من فعل الأمر مُعتلّ الآخر، ويَشعُر بنصرٍ مظفّرٍ على عدوٍّ وهمي حين يتصيَّد خطأً لُغويًا أو “خطيئة لُغوية” اقترفها أحد زملائه الكُتّاب “خونة اللغة” كما يُسمِّيهم. راضي لم يَقتَرِف أيّ خطأ لُغوي في حياته، ومع ذلك اعتاد على قراءة اسم الصحيفة التي يعمل بها “الحقيقة المُطْلَقة” (الصحيفة الرسمية لبلاد السفرجل)، بطريقةٍ خاطئة، فيقرؤها “الحقيقة المُطَلَّقَة”؛ فالحقيقة من منظوره تُطلَّق دائمًا، يُطلِّقُها البشر قبل لحظة الدخول بها وهُم على بُعدِ بضعة سنتيمترات منها! لكنّ حَماسَهُ لتصحيح “خطايا المُحرِّرين”، لن يَمنعه من ارتكاب خطأ تحريري سيقلب حياته رأسًا على عَقِب.
صبيحة يومٍ مُضجرٍ كسائر أيامه، استيقظ راضي على لكمات وصفعات وركلات ثلاثة رجالٍ لم يرى منهم إلا اللون الأسود القاتم: لون ملابسهم ونظّاراتهم الشمسية وشواربهم الكثّة وكمّاشات وعِصِي كهربائية كانوا يضعونها على خُصورهم. أحدهم بعد أن سدّد عدّة ركلاتٍ من زوايا مختلفة إلى مرمى خصيتي راضي، صاح بوجهِه:
من الذي دفع لك أيّها الفَوضويّ المُندّس؟ اِعتَرِف يا حيوان يا خوّان يا عدو الأوطان، تعالَ معنا لنُلقّنك درسًا في الوطنيّة يا قوّاد….
راضي وبدلَ أن يقول خيرًا أو يَصمُت، حاول الدفاع عن نفسه وقد أضحى في وضعيّة خروفٍ مصيره الذبح صباح أول أيام عيد الأضحى، فخاطبهم بصوتٍ تغلبه الحشرجة:
لكن.. أنا.. لستُ قوادًا، أنا مُدقّق، كاتب، مُحرِّر وأُحبُّ….
وقبل أن يُكمِل، قُذِفَت لكمةٌ بقوة كرةٍ حديدية ضخمة إلى وجهه فكسرَت أنفه.
وبينما هو مُلقىً على الأرض ووجهه مُرنّخٌ بالدم، رأى راضي بصعوبةٍ رجلًا بدا نحيلًا جدًا، يَرتدي ثيابًا لونها مزيجٌ من الأصفر والأزرق والأخضر والبنفسجي وألوان أخرى لم يتمكّن من ملاحظتها كلّها. خاطِبُه هذا الرجل بصوتٍ منخفضٍ ونبرةٍ هادئة:
يُمكنك القول إنّنا زملاء؛ فنحن كتابٌ أيضًا: جئنا لنكتب الفصل الأخير في مسرحية حياتك. كذلك نحن مُدقّقون: جئنا لندقّق في حُبّك لهَذي البلاد ونُراجِع وطنيّتك أيُّها المُحرِّر!
ليَفقِدَ راضي بعد ذلك وعيه.
استيقظ راضي فوجَدَ نفسه محشورًا في قفص الاتهام داخل محكمة بلاده الرسمية، التي يُطلَق عليها “محكمة العدالة القُصوى لإعدام المجرمين الحاقدين على البلاد والحاسدين للعباد على ما في تاريخهم من أمجاد”، وأوّل ما رآه: ثياب الإعدام البُرتقالية التي كَسَت بَدَنَه! المحكمة غَصَّت بالحضور وكأنّهم جاؤُوا ليُشاهدوا وصلة رقصٍ شرقي أو مهرجانًا لمُغنٍّ شعبي. أنظارهم كلّها توجّهت صوب المتّهم باحتقارٍ وقرف، أمّا هو فلم يعرف حتّى اللحظة ما هي التهمة المُوجّهة
إليه. أخذ راضي يصرُخ دون تفكير:
لماذا أنا هُنا؟! أنا مواطنٌ صالح، أنا كاتب شريف، أنا مُحرِّر.. أخرجوني من هنا أرجوكم! أنا بريء.. لستُ أنا الفاعل، ماذا فعلتُ أنا؟!
لكنّ صوتًا جاء من حيث يَجلِسُ القاضي، نهى راضي عن الكلام. أمعن الأخير النظر، فإذا بالقاضي هو نفسه الرجل النحيل جدًا ذو الثياب الملوّنة الذي كان يُرافق الرجال الثلاثة الذين أشبعوه ضربًا. نظرَ القاضي لراضي بوجهٍ عابسٍ متجهِّم مع الاحتفاظ بنفس النبرة الهادئة التي خاطبه بها ساعة زيارته الصباحية له، وتوجّه إليه قائلًا:
أنت متّهم يا راضي يا ابن السترة، بتعكير صفو علاقات بلاد السَفَرجَل مع بلد الواحات المُلتَحِمَة الصديق الحبيب.
تَعجّب راضي:
أنا يا سيدي.. كيف؟! أنا أُحبّ تلك البلاد وأحلم بالسفر إليها وأعشق ثقافتها وأحرص على متابعة الأفلام التي تُنتجها وأتمنّى أن أكون أحد أبطالها وأُحبُّ رئيسها الــــــ…
أسكَتَ القاضي راضي:
دَعكَ من الكذب الذي استمرأته بحكم عملك بالصحافة، وإلّا أمرتُ بإعدامك حالًا بدون محاكمةٍ عادلة! لقد أخطأت في تدقيق المادة الصحفية التي تَرثي فقيد البلاد والكون، سعادة سفير بلد الواحات المُلتَحِمَة المأسوف على شبابِه والمنشورة أمس، في صحيفة “الحقيقة المُطْلَقَة”، حيث وَردَ في المادة أنّ سعادة السفير الراحل ترك في بلادنا “بَصْقَة” لن تُزول بدلًا من “بَصْمَة”، وهذه إهانةٌ شديدة لسعادة السفير المرحوم ولكلّ السُفراء.. فهم لا يبصقون أبدًا!
لم يردّ راضي، سَكتَ كالأبله وأخذ بالتفكير سريعًا مع نفسه ودماغه قد استحالت فيلمًا عشوائيًا يُصوّره مخرجٌ بكاميرا مُهتزّة:
الويل لي! لقد انتهى أمري حتمًا. كيف ارتكبتُ هذا الخطأ القاتل؟! أين كنتُ وقتها؟! هل هي زلّة فرويدية لعينة؟! الويل لي.. الكل سيحكي عن مأساتي، عن حرفٍ واحدٍ جعلني محسوبًا على المنشقّين من الفوضويين والعدميين!
اِستغرق راضي بالتفكير، ولم تُرعبه حقيقة أنّه بعد دقائق سيُرسل إلى غُرفة الإعدام، ما كان يُرعبه هي طريقة الإعدام، فهو يريدُ رحيلًا سريعًا، موتًا بدون ألم ومعاناة. “حبّذا لو تكون رصاصة في الرأس أو يجزّون عُنُقي فيتدحرَج وينتهي الأمر بسلامٍ أبدي!”.. حدّث نفسه وهو متحمّسٌ جدًا للموت.
أَمرَ القاضي بإعطاء راضي دقيقة واحدة كاملة للتفكير بما سيقوله للدفاع عن نفسه؛ فوِفقَ قانون بلاد السفرجل، وفي الجرائم التي تُهدّد العلاقات مع الدول الصديقة، يُمنَع وجودُ محامي دفاع عن المتهّم الفوضوي العَدَمي المُجرم. استغلَّ راضي تلك الدقيقة فأجرى عَصفًا ذهنيًا مع نفسه، وعلى نحوٍ مفاجئ، وفي لحظةٍ تُشبّه نزول الوحي، انتَصَبَت قامته وبَدا كشجرةٍ باسقة -فقد كان طويلًا جدًا كجدّه “الحيط”- وظهرت عليه معالم ثقةٍ عالية لا تتناسب مع الموقف الموضوع فيه، وتوجّه للقاضي مخاطبًا إياه بهدوءٍ مع ابتسامة خفيفة:
لن أكذب إطلاقًا يا سيّدي، وسأقول الحقيقة المُطْلَقَة: لم يكن ما فعلته خطأً إملائيًا مُجرِمًا ولم يكن خطيئةً يجب التكفير عنها بإبادتي ولا ذنبًا يستوجب العقاب بالإعدام. أنا يا سيّدي.. كتبت ذلك وفخورٌ به لأبعد مدى، وأكَادُ أجزِمُ أن سعادة السفير الغالي لروحه الغالية الرحمة ولإنجازاته المجيدة طول البقاء، لو كانَ حيًا لفَهِمَ مقصدي وافتخرَ بي وقلّدني وسام شرف أو منحني شهادة فخر وتقدير، لأنّي مَادِحٌ لحضرة جنابه ومُبجّلٌ لمقامِه العالي.
اِندَهَشَ الجميع في المحكمة، أخذوا يتحدّثون فيما بينهم:
لقد حفر قبره بيده!/الخازوق بانتظار هذا الأرعَن/سيُقطّعونه ويرمون لحمه النتِن لتماسيح سعادة السفير/يظُنُّ نفسه ثوريًا هذا الطبل الرومانسي/فوضوي غبي/الله لا يردّه هالحمار!
أطلق القاضي رصاصةً في الهواء ليُسكِتَ الحضور الجماهيري الكبير لهذه المحاكمة، ثمّ أمرَ راضي بإكمال حديثه:
هل هناك يا سيّدي ما هو أعظم من البَصْقَة؟ البَصْقَة خارجةٌ من الأعماق وتحتاج لجُهد وتُسبّب الكثير من التعب لصاحبها! ومن يُعطيك ما هو خارجٌ من أعماقه وبذلَ جهدًا من أجله وتعب فيه، فهو يُحبُّك بالضرورة، ومن يُحبّك وَجبَ عليك تقديره وحتّى عِبادتُه! يا سيدي، أرجو أن تتحمّلني قليلًا.. فقط أريد أن أسأل بكل صدقٍ وبمنتهى العفوية: ما المشكلة حين نقول إن سعادته تَركَ بَصْقَةً في بلادنا؟ نحن في الحقيقة غارقون في هذه البَصْقَة.. نَسبح في بحرها مستمتعين وممتنّين! ولمَ الذهاب بعيدًا، هذه المحكمة ما كانت لتكون وما كُنتُ لأُحاكَم فيها لولا مساعدات بلاد سعادة السفير الراحل عن هذه الدُنيا الزائلة والخالد في قلوبنا. وأيضًا مدارسنا وجامعاتنا ومطاعمنا ومتاجرنا وشركاتنا وإعلاناتنا ومستشفياتنا وسجوننا وخمّاراتنا ونوادينا الليلية ومقابرنا من مساعداتها.. أليست هذه بَصْقَة؟ وإنّها وحقّ تراب هذه البلاد الغالية.. لأعزُّ بَصْقَة؛ كَرَمٌ حقيقيٌ خارجٌ بصدقٍ من أعماق قلبٍ مُحبٍّ دون تنازلات، إنّ هذه البَصْقَة تحمل في باطنها أسمى أشكال الحبّ اللامشروط، وإنّي لأرجو أن لا يَحرِمنا السفراء القادمون من بُصاقِهِم الممزوج بالغرام والوئام والسلام وحُبّ جميع الأنام.
بَدَت على القاضي علامات الانبهار، واِبتسَم لراضي معلنًا بذلك أنّه راضٍ عنه.. ومسك هاتفًا محمولًا من الطراز القديم، وطَلبَ رقمًا:
يا فاتِح، أعِد الأدوات إلى مكانها، واصرِف الشباب إلى مقارِهِم.. تمّ إلغاء أمر الإعدام، فالمتهم بريء.
ومنذ تلك الحادثة، أصبحت مساعدات أي دولةٍ مُتقدّمةٍ وغنيّةٍ لأيّ دولةٍ فقيرة ومتأخّرة ومُتخلّفة تُدعى: بَصْقَة. وبعدها بفترةٍ وجيزةٍ أصبح راضي رئيس تحرير صحيفة الحقيقة المُطْلَقَة، ثُمّ بعد سنة أصبح “وزيرًا لتعزيز العلاقات مع الدول الصديقة”. ثم ما لبثَ أن تقلّد منصب مدير “صندوق البُصَاق الكوني”، ثمّ عُيّنَ سفيرًا لبلاد السَفَرجَل في بلد الواحات المُلتَحِمَة، وبقي في المنصب حتى اندلَعَت احتجاجاتٌ على رفع أسعار الفَلافِل، وتراجعت العلاقات بقوّةٍ بين البلدين “الصديقين”، بتراجع مُعدّلات الانتفاخ والضُّراط. فانشقَّ راضي وفرَّ من بلاده، ليتحوَّل إلى عُضوٍ في أحد أحزاب المعارضة الخارجية، وكتب روايةً عن “تجربته النِضالية الثورية” و”محنته الطويلة والمريرة” في سجون بلاد السَفَرجَل وكيف أصبحَ من أبرَز “مُعارضي المنفى” الراديكاليين، عنوانها: كيف تعلّمت أنْ أُحبَّ البَصْقَة.