مأساة ناتشو ڤارچا: هل الإرادة الحرّة.. حقًا حرّة؟

تدفَعُنا قصّة إِچناسيو “ناتشو” ڤارچا من مسلسل Better Call Saul، للتساؤل مُجدّدًا عن إرادة الإنسان وعن مقدار حريّة هذه الإرادة؛ إذ يبدو ڤارچا للوهلة الأولى حُرًا في كافة اختياراته، أو على الأقل في أوّل اختيار: التخلُّص من هِكتور سالامانكا. وقد نستنكر ما فعله بنفسه وبإرادته الكاملة، فنقول مثلًا: كان من الممكن أن لا يقتل هِكتور ويُوفّر على نفسه كل هذه المعاناة ولا يضطّر للتعامل مع چوستافو “چَس” فرينچ (التجسيد المثالي للنيوليبرالية ذات الوجهين: وجه إنساني مفرط في إنسانيّته، مبتسمٌ على الدوام، يحترم حقوق الجميع ويُحبُّ عمل الخير والإحسان. ووجهٌ سيكوباتي دموي، باردُ المشاعر، يشي بقلبٍ ميِّت لا يعرف الرحمة بل الإنتاجية والربح وسحق جميع الخصوم وكل من يشكّل عثرة في طريق إنجازه). أو ربما نظنّ أنّ ناتشو لا يُحسن الاختيار أو اتّخاذ قرارات عقلانية وبالتالي عليه أن يتحمّل مسؤولية أفعاله وأن يحصد ثمار ما زرعه بإرادته الحرّة.

صحيحٌ أنّ ڤارچا كان حُرًّا في مُمارسة فعل التخلّص من هِكتور، لكن هل أرادَ التخلّص منه بِحُريّة؟ وهل كان مُحرَّرًا من قيود كل الظروف المُسبقَة التي لم يسعى للمرور بها بإرادته الحرّة وأوصلته إلى محطّة اتّخاذ هذا القرار الذي شنَّ انقلابًا على توازن حياته؟

لقد كان يملك إرادة الفعل، لا جدال في ذلك؛ لكن هذه الإرادة ليست حرّة أبدًا! وصحيحٌ أنَّ أحدًا لم يُجبره بشكلٍ مباشر على محاولة قتل الدون هِكتور سلامانكا، لكن إرادته تم التلاعب بها من قبل الظروف التي وُضِعَ بها صاحب الإرادة ومن قبل الأشخاص الذين أجبروه -بشكلٍ غير مباشر- على اتّخاذ هذا الفعل بإرادته منزوعة الحريّة (مثل تهديده بقتل والده الذي كان كل شيءٍ بالنسبة له وواهبًا للمعنى ومانحًا للغائية).

ربما القرار الوحيد الذي قامَ باتّخاذه بإرادةٍ حرّة كان إنهاء حياته بيديه، أن يَختم هذا الوجود وتلك الرحلة المأساوية ببسالة على طريقة “هارا كيري” حيث يُنهي مقاتل الساموراي حياته بيديه، تجنّبًا للموت على يد العدوّ، لكن ڤارچا استخدم مُسدّسًا عوضًا عن السيف. حتّى هذا القرار ليس حُرًا تمامًا؛ فقد قادته إليه كل الظروف السابقة عليه، كل ما تورّط به وحقيقة أنّه أصبح في قبضة أعدائه وسيموت بأكثر الطرق ساديةً على أيديهم. لكنّ الموت بذاته لم يعد قضيّته، إنّما أنْ يكون هذا الموت نهايةً تليقُ برجل شجاع.. وقد كانت كذلك!

الشيء نفسه ينطبق على مايك، الذي تشكّلت بينه وبين ناتشو علاقة أبٍ وابن. قد نتساءل: ما الذي يفعله هذا العجوز؟ لماذا ما زال مُستمرًا وهو الذي لم يترك أحدًا في عالم ألباكركي إلّا وقتله وكأنّ فعل القتل بالنسبة له كتناول الفتسق إلى جانب البيرة؟! ما الذي يُجبره على التورُّط مع شخصٍ خطيرٍ مثل فرينچ وتحمّل تبعات العمل معه وقد كان بإمكانه أن يرتاح ويحيا بسلام في خريف عمره أو أن يعمل باستقلالية ويعيش على مهمّاتٍ خفيفة ومدرّة للمال هُنا وهُناك. لكن السلام لم يكن يومًا خيارًا لمايك -كما يقول ماچنيتو في فيلم رجال إكس: الدرجة الأولى (2011)-! ثم مجدّدًا: لم تكن إرادة مايك حُرّة، كل فعلٍ قام به دفعته إليه مجموعة ظروف من الماضي حينَ كان شرطيًا أو بسبب مقتل ابنه الشرطي، أو ربما ظرفٌ واحد: وجود حفيدته الوحيدة، وعن هذا الظرف تولّدت غاية عُليا وهدفٌ سامٍ، باتَ مايك يفعل كل شيء من أجله: حمايتها وتأمين مستقبلها.

بين ناتشو ڤارچا وعبد الله بن الزبير

في النهاية، سأقفُ عند نهاية الرجل الشجاع أو للدقّة ما بعد هذه النهاية، حينَ يجرّ التوأم سالامانكا الكرسي المتحرّك لعمّهما هِكتور باتجاه جثّة ڤارچا -المفارقة أن هِكتور نفسه غدا جثّة حيّة- ليُطلق النار صوبها بشكلٍ هستيري، كنوعٍ من التعويض عن حرمانه من الظفر بلذّة التنكيل بصاحب الجثّة حيًا. تُذكِّر هذه النهاية بإحدى قصص التاريخ الإسلامي، حيث كان هناك رجل شجاع آخر هو عبد الله بن الزبير في مواجهة الحجاج بن يوسف الثقفي ومن خلفه سلطة الحُكم الأموي ودعايته السياسية وأسلحته الفتّاكة. وبحسب ما يَرويه المؤرّخ المصري الراحل أحمد زكي صفوَت، في كتابه “جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة”، فإنّ ابن الزبير وفي آخرِ ساعات قتاله ضد الأمويين، خافَ أن يقتلوه ثم يُمثّلوا به -وفعلًا فعلوا ذلك!-، فردّت عليه أمّه أسماء بنت أبي بكر: “يا بُني إنّ الشاة لا يَضرُّها سَلخُها بعد ذَبحِها!”.

تجنّبًا للسقوط في فِخاخ المثاليات وشِراك الأفكار الرومانسية، لن نقول إن عبد الله بن الزبير قد “انتصر بموته” ولا ناتشو ڤارچا أيضًا. لكن في حالة الأخير، ثمّة خسارة بالضرورة للآخر/العدو، لآل سالامانكا، ممثّلة في عدم تذوّق طعم الانتقام لكبيرهم هِكتور، في حرمانهم من إيذاء خصمهم والتنكيل به وقد كانوا يسعون إلى ذلك ويقومون به باحترافية وبكل سعادة! وفي تاريخٍ بديل (Alternative history) هناك نسخةٌ من ابن الزبير، ولن نكون حالمين فنُبالغ ونقول إنّها انتصرت، لكنها قَضَت نَحبَهَا على يدها وبإرادتها اختارت نهايتها ببسالة على طريقة يوكيو ميشيما، حينَ أدركت أن البديل الوحيد هو السقوط في يد الأعداء وجعلهم سعداء. أما التمثيل والسلخ بعد الذبح وكل ما يأتي بعد النهاية، فليس أمرًا ذا شأن.