بين تولستوي و«أبو كرش التركي»: كم نصيب الإنسان من إهانة نفسه؟

على الأرجَح، سيتعجَّب قارئ العنوان ويتساءل: ما الذي قد يَجمع بين الروسي صاحب “البعث” والتُركي صاحب “الكرش”؟! الأوّل قدّم قبل أكثر من قرن فلسفةً فريدةً وبدائع في عالم الأدب، تَركَت أثرًا عميقًا على الّذين جاؤُوا من بعده من فلاسفة وأدباء، كما خَلقَ نَسَقًا دينيًا من اللاسُلطويّة هي “اللاسُلطويّة المسيحيّة”. والثاني يُقدِّم اليوم مقاطع ڤيديو يهزّ فيها “كرشه” الكبير ويُحرّك جسده بحركاتٍ بهلوانيةٍ وعلى وجهه ترتسم ابتسامة عريضة وفي الخلفيّة تَصدَح موسيقى تليق بهذا الأداء “السيركي” الذي يُقدَّم على أرض المنصّة العابرة للقوميّات والثقافات، التي لا تعرف حدودًا للعرض المُفرِط.. تيك توك (TikTok).

الجَامِعُ بين هذان النقيضان قصّة قصيرة كتبها ليو تولستوي عام 1886، وعنوانها “كم هو نصيب الإنسان من الأرض؟” وهي طَاغِية الشُهرة وغنيّةٌ عن التعريف، ومن لم يقرأها فغالبًا شاهد نسخةً عنها، تغيّرت فيها الكثير من التفاصيل، مع الاحتفاظ بالفكرة الرئيسية، في إحدى لوحات الفنّان السوري ياسر العظمة في مسلسل “حكايا المرايا” (إخراج مأمون البنّي) عام 2001، وقد حملت عنوان “الخنجر”.

تسرد هذه القصّة حكاية رجلٍ قرويٍ يُدعى باهوم، يَحلُم باِمتلاك قطعةٍ من الأرض، وفعلًا يتحوّل حُلمه إلى حقيقة، فيملك أكثر من قطعةٍ لكنّه لا يرضى عنها ولا يصل لمرحلة الإشباع معها، ليُصبح مهووسًا بامتلاك الكثير منها. وفي ديارٍ بعيدة عنه، حيث تَسكُن قبيلةٌ تَعيشُ نمطٍ حياةٍ بِدائي لكنّه بسيط وهادئ تغمره روح الهناء وغير مُتَمركزٍ حول المال والثراء، يُمنَحُ باهوم أخيرًا فرصةً لامتلاك ما يشاء من الأرض!

عَرضٌ مغرٍ وغير معقول: كل الأرض التي يُريدها مقابل 1000 روبل، لكن الشيطان -وهو صاحبُ دورٍ محوريٍ في القصّة- يكمُن في التفاصيل: عليه أن يمشي أرضًا واسعةً على أقدامه بدءًا من طلوع الشمس، وليس مطلوبًا منه أن يقطعها كاملة، بل له مطلق الحرية في السير فيها وتحديد نصيبه والنقطة التي يتوقّف عندها يقوم بوضع علامةٍ عليها، فتصبح مِلكه وحقًا شرعيًا له، على أن يعود لنقطة البداية قبل غروب الشمس.. وهو ما لم يحدث؛ إذ غلبه شيطان طمعه الذي زيَّن له أنّ بمقدوره حيازة المزيد من الأرض ومضاعفة نصيبه منها، ليكون نصيبه من الأرض قبرًا طوله ستّة أقدام!

هذا مُختصَر قصّة تولستوي، التي يمكن ربطها بقصّة الشاب التركي ياسين جنكيز (المعروف بين مستخدمي وسائط الميديا من العرب بـ”أبو كرش”) حيث الإنسان طمّاع ولا يعرف حدودًا لرغبته وحاجاتِه. وإن كان مسعى باهوم إنسان القرن التاسع عشر، ذي الأصول القروية البسيطة -التي تشبه أصول جنكيز- طبيعيًا ومشروعًا لولا أنّ شيطان الطمع أغواه؛ إلّا أنّ ما يفعله جنكيز من إهانةٍ لنفسه واعتماده على قطعةٍ من جسده لمضاعفة نصيبه من الإهانة الجالبة للمال والشهرة، لا يبدو طبيعيًا أو مفهومًا إلّا إذا تمّ النظر إليه في سياق “التداول السريع لرأس المال والمعلومات والتواصل، الذي لا تُدمَج فيه المساحة الخاصة والخجل”، بحسب الفيلسوف الألماني من أصل كوري جنوبي بيونچ-شول هان.

وليست هذه محاولة لشيطنة هذا الشاب التركي بطبيعة الحال؛ فالمسألة أكبر منه والأزمة تتجاوزه لما هو أكثر تعقيدًا وتركيبًا، وهو في النهاية إحدى الأثار الطبيعية لـ”سيولة” هذا الزمن، كما كان تولستوي ثمرةً لروح عصرٍ فيه الكثير من الصلابة. والأهم أنّ هذا الشاب مجرّد قطرة ماءٍ في بحر ما يسمّيه شول هان بـ“مجتمع العرض”، الذي يرى أنّه “معادلٌ لمجتمع البورنوچرافيا، حيث كل شيءٍ فيه يتم تحويله إلى الخارج، تجريده وكشفه وتعريَتُه ووضعه في غرفة العرض، وعليه أن يكون معروضًا ليكتسب صفة الوجود، وهذا الإفراط في العرض يُحوِّل كل شيءٍ إلى سلعة” وفي حالة ياسين جنكيز، فإنّ “كرشه” المعروض بطريقةٍ فاحشة تحوَّل إلى سلعة.

هذا المجتمع يُسلِّع أفراده أنفسهم من خلال عرض حياتهم عبر “وسائل التواصل الاجتماعي” -ويا للمفارقة يَغيبُ عن هذه الوسائل البُعد الاجتماعي بكل صلاته الحقيقية- بمنتهى الشفافية.. لا شيء محجوب مطلقًا وكل شيء مستباح، إنّه عالمٌ وقحٌ وعارٍ تُسيطِر عليه كما يقول شول هان أيديولوجيا ما بعد الخصوصية؛ حيث باسم الشفافية يتمّ الدعوة إلى القضاء بشكلٍ تام على المجال الخاص.

قد يتم الاِعتراض هُنا، والقول بأنّه كان -وما زال- يُعرَض على شاشات التلفزيون والسينما بمفهومها التقليدي أو الحديث (خدمات البث/المنصّات)، ما هو أسوأ ممّا يفعله ياسين جنكيز! ولا شكّ في صوابِ ذلك، لكن ثمّة فرقٌ جوهري: العلاقة في العمل التلفزيوني أو السينمائي “عمودية”؛ أيّ من أعلى (صُنّاع الفيلم) إلى أسفل (المتلقّي/المشاهد)، وبالتالي ففيها نوعٌ من الوضوح والتماسُك والصلابة حتى لو كانت رسائل ومضامين الأفلام والمسلسلات عكس ذلك تمامًا. كذلك فإنّ أفعال وحركات المؤدّيين في هذه الأعمال -حتى لو أرداد البعض إخضاعها للمحاكمة الأخلاقية- تأتي في سياق سرديةٍ فنّيةٍ مُحكَمَةٍ ومُنظّمة.

أما في ما يُعرَض على تيك توك و إنستچرام وسناب شات وغيرها، فالعلاقة فيه تأخذ شكلًا “أُفقيًا”، من (الناس) وإلى (الناس)، حيث لا تكون هناك أيّ رسالة أو مضمون -حتى لو رسالة هدّامة أو عدمية أو مضمونًا “مُبتذلًا”- مجرّد عرضٍ والمزيد من العرض وفائضٌ من استعراض بعضنا أمام بعض. وإن كان صنّاع الأفلام يسوّقون بضاعتهم للربح، ويَحشونَ بطانتها بأفكارهم ويُحمّلون مَبانيهَا مَعانيهُم، فنحنُ عبر هذه التطبيقات والمنصّات نُسوّق أنفسنا لبعضنا ونبيعُ الآخرين تفاصيل حياتنا وما كان متعارف عليه يومًا ما بالأسرار.

كذلك، فإنّ تفاعل الناس مع التلفزيون ومع السينما -والتركيز هُنا على الأشكال التقليدية لها- يتّسم بالجماعية وفيه تواصلية ونوعٌ من الحميميّة؛ حيث كان يتجمّع الناس لمشاهدة مسلسلات ربما لا تخلو من ابتذال مثل “باب الحارة” أو يذهبون للسينما أو يلتقون في بيتٍ لمشاهدة فيلم أو مسلسل كوميدي قد ترى في تصرّفات بطله امتهانًا لنفسه. لكن في هذه المنصّات والتطبيقات، التفاعل مُتَشظٍّ وفردي والتواصُلية مُهمَلة والحميميّة منزوعة؛ فكل واحد قابع في زاوية يُبَحلِق مُطأطَأ الرأس في “دمية الدب الرقمية” (الوصف لبيونچ-شول هان) ذات الستّة إنشات أو أكثر.. التي يحتضنها بيديه.

ما يقوم به هذا “المؤثّر التركي”، ليس الأكثر إثارةً للدهشة والاستغراب؛ ثمّة الكثير ممّا هو أسوأ! سيركٌ افتراضي أو Freak show مُعولَم -بعكس السيرك ذي الهوية أو الخصوصية المحلّية- تُعرَض فيه أكثر الأشياء غرابة: بشرٌ أشكالهم ليست كالبشر، مُسوخٌ يفتخرون بذلك، أشخاصٌ مصابون بعيوبٍ خَلقية يسخرون منها ويدعون الآخرين إلى حفلة اِمتهانٍ لكرامتهم الإنسانية، علاقاتٌ للبيع وخصوصياتٌ مُشاعَة، نوعٌ جديد من البرونوغرافيا نؤديها ونصوّرها نحنُ لا نجومها وصنّاعها، تمركزٌ حول الجسد واِستمدادٌ للهوية والوجود من أعضائه، أباءٌ وأُمّهات يُحوّلون أبناءهم لسِلَع فيستغلّونهم أو يتسوّلون عليهم لمضاعفة خانة المتابعين وربما خانة رصيد البنك.. من يدري؟! إذْ أنّ الأسوأ في هذا “السيرك السُريالي” و”معرض الموتى بحياتهم” لم يأتي بعد، ويبدو أنّ نصيب الإنسان من إهانة نفسه قبرٌ لِمَا تبقّى من خصوصيةٍ وسريةٍ وخَجَل!

مراجع:

بدائع الخيال: عشر قصص ممتعة للفيلسوف الروسي ليو تولستوي، ترجمة عبد العزيز أمين الخانجي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.

مجتمع الشفافية – بيونغ تشول هان، ترجمة بدر الدين مصطفى، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.