
في كتابه “المُصطنَع والاصطناع”، يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار أنّ الغرض من “ديزني لاند” هو إخفاء حقيقة أنّ البلد “الواقعي” كل أميركا “الواقعية” هي ديزني لاند، كما تخفي السجون حقيقة أنّ الاجتماعي بكامله، وفي كليّة وجوده التافه هو المسجون. من هذه الزاوية البودرياريّة يمكن قول شيءٍ مشابه عن “لعبة الحبّار”؛ أنّ هذه اللعبة المُميتة، تُخفي -ربما بشكلٍ غير واعٍ- حقيقة أنّ العالم كلّه وليس كوريا الجنوبيّة فقط، لعبة خاضعة لقوانين داروينية اجتماعية، يتصارع فيها البشر من أجل البقاء في ظروفٍ غير إنسانيّة من صناعة الإنسان، أو حتّى في الكوارث التي تصنعها الطبيعة أو “خالق الإنسان”، أو حين يلعبون من أجل الربح بإرادتهم أو هكذا يبدو ظاهريًا، لكنّها إرادة الظروف التي تُكرههم على اللعب ويُخفي خالق/خالقو تلك الظروف حقيقة ذلك، معلنين أنّه “لا إكراه في اللعب”، ليخرج في النهاية رابح واحد، حافَظ على بقائِه لأنّه “الأصلَح”. لكن هل كان الباقي في لعبة الحبّار “الأصلَح” حقًا؟
عن العنف اليومي ضد الآخر والذات
يَغصّ المسلسل الذي كتبه وأخرجه الكوري الجنوبي هوانچ دونچ هيوك وتعرضه شبكة نتفليكس، بالجثث ويغرق بالدماء وتسوده لغة موحّدة يتحدّثها العالم على اختلاف ألسنته: العنف. ومع ذلك لا يبدو كل هذا الكوكتيل الوحشي صادمًا بعنف؛ ليس فقط لأنّنا رأينا درجاتٍ أعلى من الوحشيّة في أعمالٍ سينمائية وتلفزيونية سابقة، بل لأنّ هذا العنف يُمارَس على البشر في الحروب والاستعمارات المباشرة وغير المباشرة والديكتاتوريات و”الإرهاب” وحروب العصابات، ونمارس شكلًا من أشكاله في حياتنا اليومية، في الشركات مثلًا!
صحيح أنّ النيران لا تُطلق على الموظّفين في الشركات ولا يُعاقبون على تأخيرهم وتقصيرهم بالقتل ولا يقوم الموظّفون بتصفية بعضهم جسديًا، لكنّ “عنفاً رمزيًا” يُمارَس عليهم من خلال فرض نظام للمراقبة والمعاقبة واستباحة وقتهم وانتهاك حقّهم في حياةٍ أُخرى غير حياة العمل، في سبيل المصلحة العُليا “الإنتاجية” أو من أجل حفنة أوهام مثل “تحقيق الذات”، أو حين يلعب زملاء العمل ألعابًا تأخذ شكلًا مُخفّفًا من الداروينية الاجتماعية، فيقومون بتصفية بعضهم مهنيًا -بوسائل غير مهنية إطلاقًا- من أجل الحصول على “الترقية” أو زيادة الراتب أو للوصول إلى “جائزة كبرى” في النهاية أو ببساطة تجنّبًا للطرد (الإقصاء).

ولا يُمارَس هذا العنف في الواقع ضدّ الآخر فحسب، بل أيضًا ضدّ الذات؛ على صورة امتهانٍ لها لغاية الوصول إلى جائزة/جوائز كُبرى تأتي على شكل أرقامٍ كبيرة في خانة الإعجابات والمتابعات والمشاهدات ثم في خانة الرصيد البنكي وفي خانة “الأنا” المتخضّمة. هل أبالغ هُنا؟ حسنًا، فكّر جيدًا، أليس الرقص والقفز والقيام بكثيرٍ من الأشياء اللامعقولة أو التي يُفترض أن تقوم بها في سياقاتٍ محدّدة وأمام أشخاصٍ معيّنين، وتسليع الجسد و”فيتشيَّته” ووضعه في واجهة العرض الإنترنتية لغايات الفُرجة والشراء -كما يحدث في انستچرام وتيك توك مثلًا لا حصرًا- فيه نوعٌ من امتهان النفس وإذلال الذات من أجل الوصول لهذه الجائزة/الجوائز الكبرى؟ صحيحٌ أنّ ممارسي هذا الامتهان ضد الذات لا يسفكون دمهم ولا يبترون أعضاءهم أو يطلقون النار على أنفسهم، لكن الفكرة في أنّ المرء يمكن أن لا يعرف حدودًا لامتهان نفسه وإذلالها من أجل الحصول على جائزة، وأنّه مستعدٌ لسلوك طريق مُهين -لكن مُختصر- إلى بوابات فردوس الثروة، كما فعل متنافسو “لعبة الحبّار”.ب
براءة الصغار تتدنّس بقذارة الكبار
ومع ذلك، وبالرغم من أنّ العنف موجودٌ في الواقع، بل باتَ اليوم هو الواقع ذاته، ولأنّنا -كما أسلفت- سبق لنا رؤية أشكال مشابهة وأكثر جنونًا من هذا العنف في أفلام يبدو “لعبة الحبّار” متأثّرًا بها. بالرغم من هذا كلّه، ثمّة رعبٌ يجثم على الصدور، ليس فقط لأنّ القتل هُنا يتميّز بالسهولة والسيولة، بل لأنّه يحدث في سياق ألعاب أطفال، حيث تتدنّس براءة الصغار بقذارة الكبار وتتلوّث بالدماء الممتزجة بالأسى لعبةٌ يلعبها الأطفال في حاراتهم -مثل الكرات الزجاجية أو الچلول- عندما يقتل الفائز فيها شخصًا عزيزًا عليه أو يضطّر لغدر شخصٍ كان حليفًا له ليحافظ على بقائه ويتقدّم خطوة في مسيره نحو نقطة النهاية حيث تنتظره الجائزة الكبرى.
وطريقة التصفية هذه لا تُثير الهلع فحسب، بل تبعث على التشاؤم والاكتئاب والإحباط؛ إذ تؤكّد أنّه لا مكان للصغار ولا قيمة للبراءة في هذه الشركة الكونيّة أو السوق الضخمة التي نعيش بها وإن لم نستطع مقاومة هذا “الشر السائل” المتربّص بالجميع، فعلينا أن نصير جزءًا منه ونلعب لعبته ونحنُ مصابون بـ“العمى الأخلاقي” بحسب تعبير عالم الاجتماع البولندي زيچمونت باومان.

قلعة الحصن مكتظّة بالجثّث وغارقة بالدم
على سيرة الطفولة، تُذكّر ألعاب هذا المسلسل ببرنامج المسابقات الياباني “قلعة الحصن” (Takeshi’s Castle) الذي أنتِج عام 1986 وكان يُعرَض على المحطّات الأرضيّة العربيّة في تسعينيّات القرن الماضي. في الحصن ثمّة فريقان: مدافعون ومُهاجمون وهذا الفريق الأخير هُو بطلنا الذي يقتحم الحصن المنيع ويلعب ألعابًا يُواجه فيها فريق المدافعين، ويتم إقصاء قسم كبير من أعضائه، لتصل منهم مجموعة حافظت على بقائها إلى المعركة النهائية ضد المدافعين، وإن فازوا فسيربحون مليون ين ياباني. في مسابقات “لعبة الحبّار” المتسابقون هم المدافعون والمُهاجمون؛ يُدافع كل واحدٍ منهم عن حياته ويُهاجِم الآخر لإقصائه من اللعبة. أما الفريق المسيطر على حصن ألعاب الحبّار -أي الجزيرة- فلا يُدافع أو يُهاجِم، بل يُبرمِج كل شيء؛ يُبرمِج جنوده/حرسه -سأسمّيهم “الستورم تروبرز الورديين”- على تنفيذ الأوامر، ويُبرمِج ألعابه والنزاعات بين المتسابقين ونفسياتهم وعقولهم ليقوموا بأفعالٍ محدّدة في محاولتهم تجنّب الموت.
في “الحصن” نعرف خصم أبطالنا جيّدًا، ونفهم أنّه يدافع عن الحصن ضد المهاجمين ونميّز جيّدًا بين الطرفين المتنافسين، وفي النهاية تنشب معركةٌ بينهما على الطريقة التقليدية، ببساطة ثمّة وضوحٌ وصلابة في منافسات الحصن. أما في “الحبّار” الأمر مختلف! حتّى بعد تعرّفنا على “صانِع/خالق اللعبة” ومهندس هذا العالم الديستوبي الوحشي، لا يزال الأمر مفتقدًا إلى الوضوح وغارقًا في سيولة الشر، ولا يبدو الصانع هو الشخص الذي وراء كل شيء، فالأمر تجاوزه وأصبح من يملك زمام الأمور ويتحكّم في اللعبة هي إرادة غامضة تُبرمِج وتراقِب وتُعاقِب وتتلاعب في كل شيء وتملك آلات قتلٍ مبرمجة لتنفيذ الأوامر بدون تفكير وبتجرّد من أيّ عاطفة. وهي إرادة عمياء أخلاقيًا؛ إذ لا ترحم كل من لا يتلزم في لعبتها أو يخرج عن نصّها أو يفسد عدالة داروينيّتها الاجتماعية. أليس في هذه الجزيرة ولعبتها والإرادة الغامضة التي تقف وراءها محاكاة للدولة الحديثة أو نموذج مصغّر عنها؟!

مُتعة السادي وفوضويّة السُلطوي
في الحلقة التي تظهر فيها الشخصيات المهمّة، نظنّ بأنّ جزءًا من هذا الغموض الذي يكتنف صانعي اللعبة سينجلي، لكن طبقة غُبار الغموض والإبهام يتضاعف سُمكُها! لا نعرف شيئًا عن هذا النخبة التي ترتدي أقنعةً على أشكال حيوانات وتعطي انطباعًا بأنّ أعضاءها ينتمون لنوع من الطائفة الطقوسية أو الجماعة السريّة. وجه أحدهم يسقط عنه القناع، لنرى خلفه عجوزًا أبيضًا سمينًا مؤخّرته مترهّلة وفقط. ولا يبدو أنّها نخبة متعدّدة عرقيًا وقوميًا، وغالبًا كلّهم من أصحاب البشرة البيضاء كما تُخبر لهجاتهم ولكناتهم. ربّما هم رؤساء دول، أو من أيقونات “الرأسمالية الملساء الناعمة” أو “الشيوعيين الليبراليين” كما يسمّيهم سلاڤوي جيجيك، من أمثال “المحسن الأكبر في تاريخ البشرية” -الوصف لجيجيك أيضًا- بيل غيتس!
أو ربّما أعضاء هذه النخبة، هُم مجرّد أثرياء، يستثمرون في آلام ومآسي الآخرين أو يتّخذونها وسيلةً للتسلية ولا ضرر في جني بعض الأرباح بالمقامرة على الفائز في هذه المسرحية المأساوية -بالنسبة لكلّ الذين ماتوا وسيموتون فيها- والممتعة بالنسبة لهم؛ فكما يرى الناقد والمنظّر البريطاني تيري إيچلتون في كتابه “الإرهاب المقدّس”، فإنّ مشاهدي المسرحية يشعرون بأنّهم غير مُهدَّدين، ممّا يُتيح لهم أن يجنوا المتعة عبر استمداد الحياة من سقوط الآخرين، فيُشبعون دافع تدميرهم الذاتي من خلال الآخر البديل بالانغماس في متعةٍ ساديةٍ معيّنة بالتفرّج على آلام الآخرين.
يُحيلنا هؤلاء الأشخاص المهمّون الذين يدخّنون السيجار الكوبي ويشربون السكوتش في فردوسهم الأرضي المصطنع على الجزيرة، إلى “سالو” الإيطالي بيير باولو بازوليني؛ إذ يُذكّرون بالفاشيين الأربعة (الدوق، الرئيس، الأسقف، القاضي). صحيح أن فاشيي “سالو” لم يكتفوا بالتفرّج على آلام الآخرين، بل تسبّبوا بها على نحوٍ مُريع ومقزِّز، إلّا أنّهم يتشاركون في صفاتٍ كثيرة؛ مثلًا: الحديث عن الشعر والفلسفة أثناء انغماسهم في مُتَعِهِم السادية، أو التفرّج على سقوط الآخرين من خلال مناظير المسرح.

أيًا كانت حقيقة هذه النخبة وهويّة أعضائها، ليس بالأمر المهم، فلن يذهب تأثير الإحباط الذي تُسبّبه حقيقة أنّ هذه الشخصيات هي الوحيدة الحُرّة في هذا العالم “الحُر”، حيث تُفسِدُ وتٌعربِد وتمارِس إرهابها دون أن يستطيع أحد إيقافها! فلا قوّة -حتى الآن- قادرة على الوقوف والصمود في وجه “فوضوية السلطة”، وقد يبدو هذا المصطلح الأخير متناقضًا، لكنّ “لا شيء فوضوي مثل السلطة، فالسلطة تفعل ما تشتهي” كما يقول بازوليني نفسه، وكما جاء على لسان الدوق في “سالو”: “نحنُ الفاشيون، الفوضويون الوحيدون الحقيقيون، والفوضويّة الوحيدة الحقّة هي فوضويّة السُلطة!”. ربما الأمل الوحيد في كارثة تقضي على الجميع ولا يستطيع هؤلاء المُتنفّذون أن يهربوا منها ولو كانوا في بروجٍ مشيّدة، أو في تدخلٍ إلهي؛ فالله في أحيانه الملهمة هو الذي يقضي على هذا الرعب، كما يقول بودريار بتصرّف.
قائد أم واجهة؟
حتّى الحلقة الثامنة لا نعرف شيئًا عن هويّة “القائد”، الذي يمتلك كاريزما قويّة تكفي لأن نعتقد بأنّه وراء هذه اللعبة ومهندسها الأول وصانع هذه الجزيرة الديستوبية. لكن يتضح في هذه الحلقة أنّ الأمر ليس كذلك! يتحوّل من قائدٍ له الأمر كلّه إلى واجهةٍ لهذه الدولة التي تقبع داخل دولة -أو هذه الشركة التي تقع داخل شركة (الدولة نفسها) داخل شركة (العالم نفسه)- ويبدو وسيطًا بين صانع اللعبة الأوّل والشخصيات المتنفّذة ومُلبّيًا لرغباتهم. أو يمكن النظر إليه كقائدٍ لكن ليس لكي شيء، بل فقط لأجهزة الدولة القمعية والأيديولوجية -حسب توصيف الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير-؛ فهو من جهة مسؤولٌ عن احتكار القوّة والعنف لهذه الجزيرة (الدولة)، ومن جهة هو المسؤول عن الأجهزة التي تنتج ثقافة الطبقة المُهيمِنَة وتنشرها بين اللاعبين (الطبقة المُهيمَن عليها).

هذا الالتباس في حقيقة دور القائد، يدفع إلى التساؤل: هل قادة العالم فعلًا قادة حقيقيون؟ أم مجرّد رجالٍ يُوضعون في الواجهة والقادة الحقيقيون مثل “صانع اللعبة” لا نعرف شيئًا عنهم ويُفضّلون أن يبقوا في الخفاء، ليكتبوا ويُخرجوا الكوابيس من خلف الكواليس؟!
حتى الموت له علامة تجارية

في أوّل حلقة يظهر شخصٌ ثم يختفي ليعود في نهاية الحلقة الأخيرة، إنّه ذلك الشاب حسن المظهر وصاحب الابتسامة الجميلة/ المسؤول عن تجنيد اللاعبين أو رجل التسويق الخاص باللعبة الذي يصطاد بصنّارة شهوة الثروة والخلاص من الديون والانعتاق من الفقر المُحتاجين، ليأخذهم -برضاهم بعد وقوعهم في شباك الإغواء- إلى الجزيرة حيث سيكونون أسماكًا تُلتهَم وتَلتهِم بعضها. هذا الرجل الذي يتمتّع بطلاوة اللسان وحسن البيان ويمارس على اللاعبين سحرَ الإقناع هو بمثابة “الجهاز الإعلاني للموت” والمسوّق لعلامته التجارية؛ ففي ملكوت رأس المال كل شيءٍ يحظى بعلامة تجارية ويتم تسليعه أو تحويله لمساحة إعلانية، حتّى الموت نفسه. إنّ هذا الشاب الذي يُمكن اعتباره رمزًا لقسم الموارد البشرية في الشركات، هو ملاك الموت الخاص برأس المال الذي يخنق مرتديًا قفازاتٍ ناعمة ويحصد الأرواح بمنجلِه مع ابتسامة. وحتّى الأشياء التي تُقدّم للاعبين مثل وجبات الطعام والشراب التي توزّع بكمياتٍ شحيحة وبجودةٍ رديئة وتنشب من أجلها صراعات لمحدوديّتها كما في السجون تمامًا، تأتي بعلامة تجارية، بشعار لعبة الحبار: الدائرة والمثلّث والمربّع.. أو أزرار البلاي ستيشن!
اللعبة الأخيرة (456 ضد 1): رهانٌ على فساد الطبيعة البشرية
وأخيرًا يتجلّى الخالق على هيئة رجلٍ عجوز، كان موجودًا منذ البدء بين اللاعبين، وكان الأوّل ورقمه 1! سيناريو يعيد إلى الأذهان الجزء الأوّل والأجمل من سلسلة أفلام Saw، حيث كان صانع الألعاب موجودًا طيلة الوقت على هيئة جثّة رجلٍ ميّت. الإله كان ميّتًا ثم قام في Saw ليصطفي أحد رابحي اللعبة الذي رأى أنّه الأصلَح ليُكمل من بعده ألعابه، ولا نعرف تمامًا أنّه جعله في أرض ألعابه خليفةً إلّا بعد سبعة أجزاء. وصانع ألعاب الحبّار، في اللحظات الأخيرة التي سبقت تحوّله إلى إلهٍ ميّت، يلعب مع الرابح في اللعبة سيونچ چي هون أو اللاعب رقم 456، لعبةً أخيرة: رهانٌ على فساد الطبيعة البشرية! الخالق العجوز معادٍ للإنسانية، كارهٌ للبشر ومؤمنٌ بأنّ الفساد متأصّلٌ فيهم والشر جزء لا يتجزّأ من طبيعتهم، حيث يذكّرنا مقته للبشر برفض الشيطان لخلق الله للإنسان وبردّ الملائكة على الله حينَ قرّر أن يجعل في الأرض خليفة! أما سيونچ چي هون أبسط من ذلك، ليس فيلسوفًا ولا حكيمًا ولا عارفًا، لكنّه لم يفقد “الإيمان” حتى بعد كل ما مرّ فيه، فيُراهن على أنّ هناك فُسحة من الأمل وأنّ فساد البشر ليسَ حتميًا وأنّ هناك عالماً آخرًا ممكنًا ومستقبلًا أفضل، ويكسب رهانه ولا يشهد العجوز خسارته.. إذ يُصبح إلهًا ميتًا!

هل بقيَ الأصلَح في النهاية؟
لقد نجى چي هون وربح اللعبة وكسب الجائزة الكبرى، وبناءً على ذلك كان هو “الأصلَح”، لكن هل كان كذلك حقًا؟ ألم تتدخّل “يدٌ إلهيّة” منذ البدء لاستدراجه للعودة إلى اللعبة؟ أم يكن الحظّ في كثيرٍ من المرّات حليفه؟ ألا يتناقض العمل الجماعي في اللعبة الأولى -حينَ ساعده المهاجر الباكستاني علي- وفي لعبة شدّ الحبل الذي نظّمتها هذه اليد الإلهية -العجوز صانع اللعبة- مع أساليب “الأصلَح” للحفاظ على بقائه؟
ربما بمعايير السوق ومنافسته ومزاحمته وتسليعه وترقيمه، لم يكن “456” هو الأصلَح أبدًا، لكنّه بمعايير لا يأبه بها رأس المال مثل التعاضد والتكافل والإحساس بالآخرين والتعاطف معهم، كان الأصلَح حقًا وكانت هذه الصفات مهمّة لكي يبقى چي هون على قيد الحياة ويبقى فيه شيءٌ من الإنسان في عالمٍ يحتضر فيه الإنساني والاجتماعي لصالح الآلاتي والأداتي. أو ربمّا الأمر مقرّرٌ ومكتوبٌ منذ البدء، والعجوز هو “الرب” الذي قرّر كل شيء سلفًا في لوحه المحفوظ فاختار واصطفى هذا “الابن المُخلَص”، لكنّه فعل ذلك بسبب هذه الصفات تحديدًا!

هامش:
عنوان المقالة في الأصل هو جملة لجان بودريار من كتابه “المصطنع والاصطناع” وقد تمّ التصرّف بها بشكلٍ طفيف، والجملة الأصلية: “جزيرة الطوبى المتعارضة مع قارة الواقع”.
– مصادر:
• المصطنع والاصطناع – جان بودريار، ترجمة جوزيف عبد الله، المنظّمة العربية للترجمة.
• الشر السائل – زيچمونت باومان وليونيداس دونسكيس، ترجمة حجاج أبو جبر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
• العنف: تأملات في وجوهه الستّة – سلاڤوي جيجيك، ترجمة فاضل جتكر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
• الإرهاب المقدّس- تيري إيچلتون، ترجمة أسامة إسبر، خطوط وظلال للنشر والتوزيع.
• الأيديولوجيا والأجهزة الأيديولوجية للدولة – لويس ألتوسير، ترجمة عايدة لطفي.
– أفلام يبدو المسلسل متأثّرًا بها:
• Saw (2004)
• Death Race 2000 (1975)
• Salo, or the 120 Days of Sodom (1975)
• THX 1138 (1971)
• Soylent Green (1973)
• The Hunger Games (2012)
• Equilibrium (2002)
• The Island (2005)