چاسبَر نوي بالغًا ذُروة الفناء الشَّهويّ

الموت حدثٌ استثنائي!

إذا كان من الممكن وصف چاسبَر نوي بكلمة واحدة، فهي: مزعج؛ إنّه كطفل لا يهنأ إلّا بإزعاج الآخرين وتعكير صفو حياتهم، لكنّه يفعل ذلك على نحوٍ جذّاب! إذ يخلق كابوسًا مزعجًا ومرعبًا إلى أبعد حد: دماء وجنون وهلوسة جماعية وعنف ونار وفوضى.. وموت، لكنك مع ذلك لا تهرب؛ فكابوس نوي هذا مخلوق بقالب بديع، متحرّرٍ من أي نسقٍ ونظام وتقليد بالصورة والكتابة، ويعمل وفق نظام وحيد: نظام الفوضى والعالم المهزوز، المنفلت من عقال العقل.

ويبدو أنّ النشوة/الذورة في العنوان ليست نشوة/ذروة أبطاله بالمخدّرات والجنس، بل نشوتنا نحن بالدم والفوضى والجنون والعنف والقتل، بكل تلك الأشياء التي ندّعي نحنُ “المتحضّرون” أننا ضدّها. لكن في عالم وريث الإيطالي بازوليني، الفرنسي -الأرجنتيني الأصل- العصيّ على التصنيف، ليس ثمة حضارة ولا حداثة؛ فالبشر في أعماقهم بدائيون، غرائزيون وهمجيون وليس هناك ما هو أكثر قوّة من المتعة، من الشهوة لفضح هذا الجانب، لإماطة قناع الحضارة والتمدّن والحداثة عن الوجه الحقيقي للطبيعة البشرية.

لا يخرج نوي أسوأ ما في شخصيات فيلمه فقط؛ إذ أنّ هذا الإخراج لأحلَك ما في باطن النفس البشرية مجرّد وسيلة لإخراج أحلك وأسوأ ما فينا نحن المشاهدين! مخاوفنا العميقة ورغباتنا الدفينة ودوافعنا المكبوتة أسيرة “الهُوَ”، تتمثّل لنا في نشوة نوي الذي دائمًا يُعرّينا، يحطّ من قدر الإنسان، يقول لنا: إنّ البشر مبالغ في تقديرهم، وهو يبدو متأثرًا بالثلاثي هيتشكوك وكوبريك وبازوليني، من ناحية احتقاره أو تحقيره للبشر، عبر إبراز جوانبهم الدنيئة، المخبّئة تحت رداء الحضارة والمدنية. أو ربما هو يحبّ الإنسان كثيرًا، ربما هو أكثر المخرجين إنسانيةً، وأعماله احتفاء بالإنسان الأصيل، العنيف والدموي والشهواني.. الإنسان الذي لا يمكن فهمه بلغة العقل والمنطق!

منذ البدء، كان عالم نوي لا أخلاقيًا، سوادويًا، مُنعَدِم القيمة (وحدي أقِف 1998) وظالمًا وغير رحيم وبعيدًأ عن المنطق (لا رجعة 2002) ولا عقلانيًا وغرائزيًا وشهوانيًا على نحوٍ مريض (عشق 2015). وكأنّه قدّم في هذه الأعمال تأريخًا موجزًا للبشرية! وفي “نشوة” يبدو عكس ذلك في البدء، حتى يبدأ الإنسان بالانغماس في المتعة، وتُحرّكه الرغبات المدفونة والدوافع المكبوتة ووهمه بإمكانية التجاوز والتعالي -من خلال عقاقير الهلوسة-، صوب الفوضى واللامنطق والجنون وانعدام أي قيمة. فيتحوّل هذا التجمّع البشري إلى سيرك لمخلوقاتٍ لا هي بشرية ولا حيوانية.. إلى نوع من الـ Freak show!

قد يبدو “نشوة” معاديًا لمذهب المتعة (Hedonism)، ويُمكن أن تسيء فهمه فتظنّه يقول أنّ اللذّة والمتعة تقودان إلى الهاوية، إلى الموت. لكن، هو ليس كذلك، هو مُتَعي (Hedonist) بحقّ، مُتَعي أصيل، وهل ثمّة متعة أكبر من الموت؟ أليس هو “ذُرْوَة الفناء الشهوي.. ذُرْوَةٌ لا تتفتّح إلّا على هاوية”، بحسب تعبير الشاعر والمترجم السوري أمارجي في مقدّمته لكتاب “جسدٌ وسَماء” الذي يضمُّ بين دفّتيه مجموعة قصائد لبازوليني، من ترجمته.

يقول الفيلم في نهايته: “الموت حدثٌ استثنائي!”، ولكنّ استثنائيته هذه لا تمنعه من أن يوزَّع على الجميع؛ إنّه أكثر شيء مثير وغامض وعادل ولاطَبَقي. إنّ “رحلة” عقاقير الهلوسة التي يخوضها هؤلاء الشباب المتنوّعون في أعراقهم وأجناسهم ورغباتهم ومُتَعِهِم، هي رحلة رقصٍ مع الموت على إيقاع موسيقى إلكترونية لفنّانين مثل: جورجيو موردر، مارك سيرون، أفيكس توين، دافت بانك، وتبدو كل الشهوات والانتشاءات في الفيلم مُفضِيةً إلى الشهوة الكبرى والنشوة العظمى.. الموت.