
في نهاية فيلم “التقرير” (إخراج: دريد لحَّام، سيناريو: الراحل محمد الماغوط – 1986)، عندما يُنجزُ عزمي بِك “دريد لحَّام” تقريره عن الفساد وتجاوزات أصحاب النفوذ، ويذهبُ بكامل أناقته وبثقةٍ مبالغٍ فيها، ليسلّمه للمسؤولين، يتفاجأ بأنهم ذهبوا لمشاهدة مباراة كرة قدم بالملعب. وأثناء محاولته تسليم التقرير، ينزل إلى الملعب، اللاعبون لا يرونه، وكأنَّه شبح! يركلونَ الكرة، فتصطدم به، فيقع، الحكم لا يعيره اهتمامًا، كأنَّما ليس ثمة إنسان من لحمٍ ودم على أرض الملعب. تصطدِمُ الكرة به مرة أخرى فيسقط بعنف، يتشاجر اللاعبون، ولا يزالونَ لا يرونهُ وهو مُلقَى على الأرض يُحاول جاهدًا النهوض لكنَّ أقدام اللاعبين -الكادحين” من أجل تسلية وترفيه الجماهير الغائبة وتغييبها أكثر- تحول دون ذلك، فيقضي نحبه مدهوسًا تحتها!
أما تقريره الثوري، الذي كان يبغي من ورائه “محاربة الفساد” وإصلاح المجتمع، تتناثرُ أوراقه والجماهير تصرخ بأعلى صوتها لا تأثرًا بدهسِه كالصرصار بل من شدَّة انخراطها في أجواء المُباراة، من حماسة التشجيع والانتشاء بمشاهدة اللاعبين وهم يركضون خلف الكرة، والرغبة العارمة بنسيان الواقع وتجاهل بؤسِه. الملعب يخلو من الجماهير، ولا يزال عزمي مصلوبًا كمسيحٍ مُعاصِر على أرض الملعب، وسط أوراقه المتناثرة ونظّارته وآثار أحذية اللاعبين على وجهه، وبدلته البيضاء ملطَّخة بالدم وعيناه شاخصتان، وعلى وجهه الميّت علامات الصدمة والخيبة.. أنَّ تضحيَّاته ذهبت سُدىً وأنه ماتَ ميتًة لا تليق بمُصلحٍ مثله، مهروسًا كقطعةٍ بطاطا بشرية تحت أقدام لاعبي رياضة؟! والجماهير التي سعى لتحريرها، لم تهبّ لإنقاذه.. لم تره، كأنَّه كان طيلة الوقتِ خيالًا، والشعب الذي كافح من أجله كانَ سرابًا، ويبدو أنه ليسَ أقلَّ فسادًا من الذين حاول عزمي جاهدًا -وفشِل- مُحاربتهم!
عزمي بِك، مُصلحٌ مثالي، يمكنك أن تقول -إن شئتَ أن تخلِقَ انتصارًا وهميًا- أنَّهُ قد ماتَ شهيدًا تحت أقدام اللاعبين، وبتواطؤٍ من حَكمٍَ لم يره (الطبقة المُهيمِنَة)، ووسط لامُبالاة جمهورٍ لا يريد حقيقةً، بل يريد مخدّراتٍ أيًا كان شكلها، لذلك يأتي بالآلاف ليشاهد مباراة تعزِلُه عن واقعه البائس! (الشعب، ومخدّراته المختلفة الدنيوية والماورائية).. وبعدم اكتراثٍ مُطلق من جهاتٍ عُليا لا تراه، لا تعتبره موجودًا حتَّى. لكن ماذا جنى من استشهاده، وماذا تنفع الشهادة في العالم الواقعي، لا عالم المُثل والقيم؟ وهل هناك قيمة حقيقيَّة للشهادة والشهداء في ميزان الواقع؟ إنَّه مثل جيفارا والمسيح، ثوريٌ ومصلحٌ مثالي، وهل ذلك شيءٌ جيِّد؟ أظنّ أنّ الجواب بَدَهيّ.
ربما لو انتهج العنف، وهذا كانَ صعبًا للغاية في حالته وظروفه، لآتى مشروعه الإصلاحي ثماره، لحرَّك بعضًا من المياه الراكدة. أو كانَ بإمكانه، أن يقتدي بنفسه -أي دريد لحَّام- في عالمٍ آخر، بغوَّار الطوشة في (صحّ النوم)، القوي.. الذي يفيضُ قوَّة، المُتَّسِق مع طبيعته البشرية، العَالِم بجهل الناس وشر نفوسهم، المؤذي، الثعلب المكَّار الذي يتلاعب بمجتمع كامل، لعدمِ إيمانه به، لأنَّه لا يُعوَّل عليه عند المآزِق، والذي يقدِّم إصلاح نفسه، على إصلاح المجتمع.
وهل يمكن لفردٍ معبَّأٍ برزمٍ من العيوب الداخلية ومقهور نفسيًا وتستوطن حياته عشرات المشاكل التي تعيق تقدُّم مسيرته الفردية قبل أي شيء، هل يمكنه أن يدَّعي أنَّ بمقدوره إصلاح مجتمع وأيُّ مجتمع؟! مجتمعٌ ميِّت، مجتمع هو إنعكاسٌ لحاكميه، وهؤلاء انعكاسٌ له!.. وهل يستحقُّ هذا المجتمع أيَّ تضحية أو هل تستحق الجماهير أن يَهدِرَ المرء ما تبقَّى من عمره المحدود من أجلها.. في محاولة عبثيَّة لتنويرها، أو تحريرها وتخليصها؟!.. بناءً على نهاية عزمي بِك، ونهاية غيره من المصلحين الحالمين، والثوّار المثاليين، والمناضلين الرومانسيين (الذينَ لا أظنّ أننا بحاجة للمزيدِ منهم بالمناسبة).. أستطيع أن اقول: لا.
