البيضة والحجر: تاريخ مختصر لادّعاء النبوّة

لا تختلف حكاية تحول “مُستَطاع الطعزي/التعظي” (الراحل أحمد زكي) من مُدرِّس فلسفة إلى “دجّال” في جوانبها الرئيسية، عن قصص كثيرٍ من أصحاب النبوّات أو أدعياء النبوّة، وقد نذهب بعيداً في التأويل ونقول إنّ فيلم “البيضة والحجر” (إخراج علي عبد الخالق، تأليف محمود أبو زيد – ١٩٩٠) يُعتبر سردًا موجزًا –بأسلوب رمزي– لكيفية صناعة نبي ونشوء ديانة، ولا يمكن النظر إلى مُستطاع إلاَّ بوصفه نبيًا.

معالم النبوَّة تظهر على مُستَطاع منذ البداية: عبقريته، شخصيته الكاريزمية، مبادؤه في الزهد ونبذ الاستهلاك والرضا بالعيش البسيط ومحاربة الغلاء بالاستغناء، التي تتسبَّب بطرده من المدرسة بعدَ اتهامه بإفساد الطلَّاب بالتبشير بتوليفةٍ من الشيوعيّة والتصوُّف! إنه مشروع نبي، ينتظر اللحظة المناسبة للإعلان عن نُبوَّته، في مجتمعٍ فاسدٍ وغافلٍ يحتاج لنبي يُصلحُه أو يَستغفِلُه أكثر. وتَحين تلك اللحظة حينَ يسمَع عن غرفةٍ تقعُ على سطح مبنى في حي شعبي لا يسكنها الناس لاعتقادهم بأنَّها مأهولة بالجن والأرواح. فيُقرِّر لإيمانه بالعقل والعلم، ومن باب التحدّي وإثبات أن الأمر برمَّته خرافة أن يسكن الغرفة.

ذات ليلة، يحدث ما هو خارجٌ عن حدود الطبيعة في الغرفة، وتُوشك الأساطير أن تتحوَّل إلى حقائق، لكنها تبقى أساطير، وتفسير مُستَطاع العقلي ينتصر. يتَّضح أن كل ما نُسِجَ حول الأرواح المُرعبة التي تسكن الغرفة، خدع وحِيَل ينفِّذُها رجلان اثنان، يتَّبِعان دجالًا مشهورًا في ذاك الحي يدعى “زباخ” (الراحل محمود السباع)، ويقومان بذلك ليُقدِّم الناس لهما ولسيّدهما الدجّال قرابين وندور مقابل دفع “الجن” و”الأرواح الشريرة” عنهم. و”زباخ” هوَ شخصيةٌ مِحورية في عملية تحوّل مُستطاع إلى الدجل؛ إذْ بدون موروثه من الخرافات والأساطير، ما كان لمُستَطاع أن يَشتَهرِ ويَنتَشِر ويتوسع ويصبح ثريًا.

في البدء يأخذ الدين الجديد لمُستَطاع بالانتشار على نطاقٍ محدود، بعد مقاومة داخلية منه تنهار بسرعة. أهل الحي “الغلابة والمساكين” يعتبرونه من الأولياء وأصحاب الكرامة، أمّا الأغنياء فيحتاجون قدراته في التواصل مع ما لا يستطيعون تملُّكه بالمال.. الغيب! لكن سُرعان ما تأخذ ديانته بالتوسُّع حين يحدث التحوّل الجذري: يَصطَدِم بـ”النبي السابق” زباخ -في أحد أفضل مشاهد الفيلم- حينَ يُصدِّق زباخ تحت تأثير الإفراط في شرب الكحول وقدرة مُستَطاع على الإيحاء والخوف مما سمعه عنه، بأن الأخير دجَّال وله صِلاتٌ مع العالم الخارجي! وفيما بعد يظفر بمعظم أموالِه تحت التهديد.

يدخل دين مُستَطاع طورَ تحوّلٍ جديد، يَتبدّل معه أستاذ الفلسفة السابق مظهرًا وجوهرًا، فينسلخ عن مُستطاع القديم: الزاهد، عدوّ الاستهلاك، القنوع، المُتَّهم بالتصوُّف والشيوعيّة، محارب الغلاء بالاستغناء ومردِّد عبارة: “إذا غلا شيءٌ عليَّ تركته، فيكون أرخص ما يكون، مهما غلا!”. يتحول إلى كائنٍ شهواني، تائهٍ في دهاليز الملذَّات وغارقٍ في مستنقَع الشهوات. كأس الويسكي لا تفارق يده، والنساء يعتبرهن فاكهةً؛ فيُجرّب كل يوم صنفًا جديدًا من هذه الفاكهة التي كانت محرّمةً عليه يوم أن كان زاهدًا. يَختصر تحوُّله، بقوله: “زمان.. كنت بحارب رغباتي وشهواتي بالاستغناء، دلوقتي هُمّا الِّي بيحاربوني بالغنى!”. ويَنغَمِس مُستَطاع أكثر في استثمار جهل الناس وجني الأرباح منه، حتى يصل لرجال أعمال وسياسيين كبار، وهُم وعلى الرغم من سلطاتهم المتعدّدة، إلا أنّه تنقصهم سلطة واحدة.. سلطة الغيب.

لا داعي للولوج في مزيدٍ من التفاصيل، الأفضل تركها لمن شاهد أو سيُشاهد الفيلم. ما يُهمّني في المقام الأوّل، هي الجزئية التي يتشابه فيها مُستَطاع مع أصحاب النبوَّة أو أدعيائها: بدءًا من وجود ديانة سابقة، يُحاربها، ينفيها ويَهدِم أوثانها ليُدشّن على أنقاضها صرح ديانته الخاصة. “زباخ” كان هو النبي المَحلّي، ومُستَطاع فهم لعبته، وبعد أنْ أغراهُ جهل الناس وتشبُّثهم بالخرافة وقرّر استغلالهم والتنفُع من “عبقريته” و”ضلالهِم”، أعلن ولادة ديانة جديدة على أنقاض “ديانة زباخ”.

إنّ مُستَطاع ككثيرٍ من أصحاب الرسالات، الذين كانت أديانهم خليطًا من رسالات وأساطير أو “مُغامرات عقلية” سابقة مع إضافاتٍ جديدة تتناسَب مع البيئة المَحلّية التي تحتضن الدين الجديد؛ فلم يأتي بالكثير من عنده وأسَّس دينَهُ الجديد على إرث “زباخ”، وصبغه بأسلوبٍ مُستقى من فلسفته ومنطقه، ليبدو وكأنه جديد كليًا وليكون له تأثير أشد على النفوس العاجزة عن فهم الواقع وحل مُعضلاته، فتنتظر نجدَة السماء.

وكأي صاحب نبوّة كان بحاجة لمساعدين وأصحاب، ينشر مُستَطاع دِينه الجديد بمساعدة صديقة الأقرب له “توالي” (الراحل ممدوح وافي) وبدعمٍ من الكوافير “طاروتة” (الكوميدي الراحل فؤاد خليل)، المصدر الأول لأهم زبائن مُستَطاع: النساء! ويَخدِمُه أيضًا مساعدو زباخ الذين انقلبوا عليه بعد انتصار النبي الجديد، مثلما كان كثيرٌ من المُنافقين يَدخلون في دين القَويّ والمُتَغلِّب، يَدينون بدين القَويّ أنًّى توجهت ركائبه!

الجزئية الثانية المهمّة تأتي في ختام الفيلم، حين تعتقل الشرطة مُستَطاع بعد تورُّطه مع أحد المتنفّذين، فيُقرّر الاعتراف بأنه دجَّال. لكنَّ الشرطة تُفرِج عنه بسرعة! لا يمكن قراءة هذا الحدث إلاَّ كتعبيرٍ عن حاجة الدولة/الطبقة المُهيمِنَة لسُلطة الغيب. ويمكن إسقاطه على الواقع المُعاصِر والحياة المُعاشة، لنفهم حاجة الدولة للدين، لا لإيمانها به؛ بل لاستخدامه كأداةٍ فعّالة لترويض الناس، كأفضل الوسائل لإحكام السيطرة عليهم. الشرطة أطلقت سراح مُستَطاع لكنَّها وضعته تحت المُراقبة، ليُروِّض الناس بِدَجَلِه وتحت إشرافها. عند هذه النقطة لم يَعُد مُستَطاع المالك الوحيد لدِينَهُ الذي أوجده؛ لقد أصبحت الدولة/الطبقة المُهيمِنَة شريكةً له.

خُلاصة القول، إنّي أقرأ الفيلم من هذه الزاوية: مُدرّس فلسفة، عقلاني، يستبعد أيّ تفسير ما ورائي للكون وظواهره، لكنه يَصطدم بمجتمعٍ فاسدٍ وجاهلٍ، بأغنيائه وفقرائه، بشعبٍ يحكُمه سلطان الخوف من الغيب. ويكتشف أن بإمكانه أن يُصبِحَ ثريًا من خلال استغفال الناس واستثمار جهلهم وخوفهم من هذا السلطان، بدلًا من إهدار وقته وجهده وتعريض حياته للخطر في سبيل إصلاحهم، فلا يقاوم الإغراء، ليَبتَدِعَ مذهبًا جديدًا في الدجل والشعوذة؛ دين جديد بعد أن نفى الأسطورة القديمة ومُؤسّسها، ليبدأ دينه بالانتشار والتوسُّع.. ثم تتدخّل الدولة، فتُخضِعُ هذا الدين للمُراقبة، لتوظِّفَهُ في ضبط الجموع، وتهدئتها بحبوب الخوف مما تجهَل وتخديرها بإبَر سُلطة الغيب.