حين أراد غوَّار إصلاح المجتمع

مع بداية الجزء الثاني من مسلسل “صح النوم” (١٩٧٢)، يقرِّر “غوَّار الطوشة” وبعد خروجه من السجن وبالتزامن مع حلول شهر رمضان، أن يُصبح إنسانًا صالحًا، بعد أن تم إصلاحه وهو داخل السجن، بعد قراءته كتبًا لم يفهمها! ويعتزم أيضًا إصلاح مجتمع حارة «كل مين إيدو إلو». يستهلّ غوّار مشواره الإصلاحي بمساعدة “حسني البوراظان” -الذي أصبح مختار الحارة- وباحثة ومُصلحة اجتماعية (صباح الجزائري) يقع غوار في حُبّها. يُحِدث ابن الطوشة قطيعةً مع الجانب الشرير فيه، فيتخلَّى عن قوَّته وخُبثه ويهجر فلسفة “المُخ والعضلات” (عقله المتَّقِد دهاءً ومكرًا، وقوَّة أبو عنتر الجسدية)، ويتحوّل إلى الجانب “اليسوعي” الكامِن فيه، فيسلك طريق البرّ والتقوى والخير والمحبَّة، بدلًا من طريق الشر والعدوان التي سلكها طيلة حياته.

منذ انطلاقة مسيرته الإصلاحية، يصطدم غوَّار بجهل الناس وشرّهم. منظومته الأخلاقية الجديدة، تأخذ بالتهاوي أمام جشعهم وطمعهم وأذيّتهم وفساد السُلطة التي تحكمهم ممثّلة برئيس المخفر “بدري أبو كلبشة” (الفنَّان الراحل عبد اللطيف فتحي). لكنَّه لا يستسلم ولا يقطَع الأمل في إصلاح المجتمع ويُصرّ على المضي قدمًا في مشروعه الإصلاحي الرومانسي، فيفتتح “دُكانًا للإصلاح”!

يبدأ غوار، بحصد ثمار تخلِّيه عن واقعيّته وقوَّته ورضوخه لإرادة الضعف والهوان المُتدثِّرة بعباءة “الأخلاق”، فيتعرّض لمختلف أشكال الاعتداء والظلم من سكان الحارة، بدءًا من مُمثّل السُلطة “رئيس المخفر”، وانتهاءً بأرذل أهل الحارة “ياسين” أو “ياسينو” الذي يُفترَضُ أنّه صاحبُ قلبٍ طيّب و”على نيَّاته”. كل جريمة وكل سرقة تحصل في الحارة تُلصَق به. يُسجن ويُهان ويُذل حتى من المرأة التي كان مُتيَّمًا بعشقِها “فطوم حيص بيص”. لا يقف معه إلاَّ حُسني -ربما لمثاليته- والمُصلحة “المثالية أيضًا” التي تقع في حُبّه، وأبو عنتر والذي على الرغم من أنه “خرِّيج سجون” ولا أحد يأمن شرَّه، إلاَّ أنه عفويّ وصادق ومُخلِص لصديقه غوار، ربما لتحرّره من منظومة النفاق الاجتماعي وتمرُّده على القوانين.

ومع نهاية شهر رمضان وسماع غوَّار لمدفع العيد، يستجيب لرسائل الطبيعة ولنداء القوَّة، فيعود إلى غوار القديم؛ القوي والمتَّسِق مع طبيعته البشرية والعَالِم بجهل الناس وشر نفوسهم، المؤذي، الثعلب المكَّار الذي يتلاعب بمجتمعٍ كامل ويخادعه ويستغله. يعود إلى التحالف القديم بين المخ والعضلات، بينه وبين حليفه الاستراتيجي أبو عنتر، ويستأنف مقالبه بأهل الحارة، ويبدأ بسدّ دين الإهانة والذل الذي أذاقوه إياه في فترة صلاحه وإصلاحه.

بعد محاولاتٍ يائسة لإصلاح نفوسٍ صدئة، لا يمكن إصلاحها بالكلام المُنمَّق عن الخير والصلاح والاستقامة والتكافل والتعاضد، يتصالح غوَّار مع حقيقة استحالة الإصلاح. يعترف بها ويستسلم لها، لكنه لا يعود إلى عهده السابق ويضَّل مصرًا على لعب دور الإنسان المستقيم، فيتلقى المزيد من الذل والمهانة ويرثي نفسه ويهجو ضعفه ويمتدح القوَّة بأغنية “يا عنيّد يا يابا” للفنان الأردني الراحل عبده موسى، لكنه يقدم نسخة معدَّلة منها، يغير كلماتها لتعبّر عن حالته. وبعد فشل وانتكاس مشروعه الإصلاحي، وكُفره بالبشر واكتشافه جوانب مُظلمة في أعماقهم كان يظنها محصورةً فيه، يُقرّر غوَّار الانتحار عدَّة مرّات، لكنه في كل مرة يفشل، كأن الطبيعة كانت تعطيه فرصة وتقول له: إياك.. ليس هذا طريقك، كأنها تُرسل له رسائل: عُد إلى رُشدِك.. إلى سبيلك الذي اصطفيتُكَ له، سبيل الأقوياء والمقتَدِرين.

عند هذه النقطة تحديدًا، عند عودة غوار إلى أصله، إلى نهجه القديم، إلى الاستجابة الإثباتية للحياة -التعبير لنيتشه -، إلى الالتحام بروح القوَّة والتناغم مع سُلطتها والتمتُّع بامتيازاتها، وقطيعته مع نهج المُصلحين المثاليين، يكون قد تم إصلاحه فعلًا، أصلح نفسه كما أراد، ونجح مشروعه الإصلاحي الفردي لا المجتمعي، لأن صلاح الفرد في قوَّته، في تصالُحِه مع ما اختارته الطبيعة له، في ضرورة أن يكون قويًا، ذئبًا.. غولًا لكي لا يفنى وينتهي ذبيحاً -وفي أحسن السيناريوهات مُهمَّشًا منسيًا مذلولًا- على حَلَبة مُصارَعة الحياة.